للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ما كانت تخافه.

أما هو فكان يتجبنها ويبتعد عنها وقد قفل الباب الذي بين غرفته وغرفتها، وكانت قليلا ما يدخل مخدعها وإذا أراد ذلك قرع الباب كل ذلك ولم تكن جرت كلمة واحدة بينهما في هذا الشأن، وكانت "جوزفين" عندما تسمع وقع أقدام "نابوليون" ترتجف وتظن أنه آت إليها بالاخبار المخيفة. ولم تعد تقدر أن تصل من مكانها إلى الباب من غير أن تتمسك بالحائط أو بشيء آخر، ولكنه مضى كلا شهري تشرين الأول والثاني (أكتوبر ونوفمبر) ولم يكلم "نابوليون" "جوزفين" بشيء من هذا القبيل مع أنه كان في المذاكرة مع وزرائه في أمر الزواج الجديد والأسرة التي يصاهرها فإنه يستصعب مفاتحتها بهذا الشأن، غير أن هذه الصعوبة لم تغير مقاصده الثانية البتة، وكانت شهرته وسلطته عظيمتين إلى حد أنه لم يوجد أسرة في أوربا لم تكن تحسب شرفا لها أن تعطي بناتها زوجة ل "نابوليون"، فأشار عليه وزرائه أولا أن يأخذ زوجة من أسرة "البربون" لأنهم افتكروا أنه إذا فعل ذلك يرضي حزب الملكية في فرنسا ويكون ملكه أثبت بهذه الواسطة.

ثم أشاروا عليه أن يأخذ سيدة سكسونية, ولكنهم ظنوا بعد طول التأمل أن يكون الأنسب أن يصاهر جلالة ملك "روسيا" ولكن بعد أن جرى كلام بين البلاطين في ذلك قر الرأي أن يأخذ "ماريا لويزا" ابنة إمبراطورة النمسا وكان في ذلك الوقت قد آن ل "نابوليون" أن يخبر "جوزفين" بما كان قاصدا أن يفعله, وكان في اليوم الأخير من تشرين الثاني (نوفمبر) سنة ١٨٠٩ م دخل الإمبراطور والإمبراطورة لكي يتعشيا ولم يدخل معهما أحد, وكانت "جوزفين" كل النهار في غرفتها تسكب الدموع بغزارة كأنها عرفت أن ذلك اليوم كان يومها المحزن, ولكنها لما أتت ساعة العشاء غسلت عينيها ودخلت غرفة المائدة وبذلت غاية جهدها لكي تضبط نفسها عن البكاء, ولذلك لم تتجاسر أن تفتح فمها بكلمة واحدة.

أما "نابوليون" فكان تائها في بحر الأفكار ولم يكلمها بكلمة واحدة فكان حول تلك المائدة حينئذ سكوت تام ولم يذق أحدهما شيئا بل كانت أنواع الطعام تتبدل بغير أن تمس, وكان اصفرار الموت على وجه كل منهما, ولما انتهى تقديم العشاء صرف "نابوليون" الخدم, ثم نهض وأغلق الباب بيده على نفسه و"جوزفين" وحينئذ أتت تلك الدقيقة التي كان كل منهما هالعا منها, فاقترب "نابوليون" إلى "جوزفين" وأخذ يدها وقال لها بصوت منقطع: "يا جوزفين, يا عزيزتي جوزفين أنت تعلمين كيف أحببتك وإني لك وحدك شاكر على الدقائق القليلة التي بك عرفت فيها السعادة على الأرض, والآن أخبرك أن واجباتي أقوى من إرادتي, وأن عواطفي القوية نحوك يجب أن تخضع لمصلحة فرنسا".

فلما سمعت "جوزفين" ذلك خفق قلبها ونضب الدم في عروقها ووقعت على الأرض مغشيا عليها, فلما رأى "نابوليون" ذلك فتح حالا الباب ونادى من يساعده, فأتى إليه حالا عدد من الخدم من الغرفة المجاورة وكان هناك أيضا الكونت "بومون" فأومأ إليه "نابوليون" وهو مرتجف, ووجهه ممتقع بأن يأخذها على يده إلى غرفتها وأخذ هو مصباحا بيده وذهب أمامه, ولكن لما وصل إلى السلم سلم المصباح إلى أحد الخدم وساعد الكونت في حملها وكانت تقول في غشيتها: "آه لا يمكنك أن تفعل ذلك لأنك لا تحب قتلي".

ولما وصلا بها وضعاها على فراشها صرف "نابوليون" الكونت وقرع الجرس في طلب خادمتها الخصوصية وقضى الوقت بجانبها حتى أخذت تستفيق, ولما ظهر له أنها ابتدأت ترجع إلى نفسها تركها ومضى إلا أنه لم ينم طول ذلك الليل, بل كان يتمشى في غرفته ويأتي على باب غرفة "جوزفين" ويسأل الطبيب عن أحوالها, أما الطبيب فلم يفارقها كل ذلك الليل.

وفي مدة الأسبوعين الأولين بعد ذلك لم ير الواحد منهما إلا قليلا مما يتعلق بالآخر, واتفق أنه في تلك المدة كان

<<  <   >  >>