عيد التتويج ونصرة "أوسترليتز" الشهيرة فكانت المدينة في ذلك الوقت مشتعلة بالأنوار وصوت قرع الأجراس ملأ الفضاء وفي هذين الاحتفالين كانت "جوزفين" مضطرة أن تحضر أمام الشعب وكانت مؤكدة أن كل الملوك والأمراء الذين كانوا حينئذ في باريس عالمون بالإهانة المقبلة عليها, وكانت كل أصوات الطرب والابتهاج في مسامعها قرع أجراس حزن مؤذنة بمصيبتها, ومع ذلك فإنها بذلت جهدها في تسليتها لكي تظهر أمام الناس كعادتها غير أن اصفرار وجهها واغريراق عينيها بالدموع كانا ينبئان عما تحاول إخفاءه, وكانت ابنتها "هورتنس" دائما معها باذلة غاية جهدها في تسليتها وابنها "أيوجين" ترك إيطاليا وأتى باريس إليها, وبعد مواجهتها ذهب إلى "نابوليون" وطلب الاستعفاء من خدمته قائلا له: إن ابن التي ليست إمبراطورة لا يقدر أن يكون نائب الملك وأنا قصدي أن أتبع أمي في انحطاطها لأنه يجب الآن تعزية في أولادها.
أما "نابوليون" فلم يكن خلوا من العواطف بل تساقطت العبرات من عينيه وصار يكلم "أيوجين" بصوت مرتعش ويبين لزوم ذلك ويوضح له الأمور فتأثر "أيوجين" من كلامه, وأما أمه فطلبت منه أ، يبقى في خدمة "نابوليون" ويبقى من أصدقائه المخلصين كما كان أولا.
وفي الخامس عشر من كانون الأول سنة ١٨٠٩ م جمع "نابوليون" جميع الملوك والأمراء من أسرة الإمبراطورة وأكثر القواد المشهورين في منتدى "التوبلمري" العظيم حتى يقص عليهم خبر انفصاله من "جوزفين" وكان كل واحد من الحاضرين منذهلا من غرابة هذا الاجتماع فنهض "نابوليون" في أثناء ذلك وخاطبهم قائلا:
"أن مصالحي السياسية ورغبة شعبي الذي كان دائما يدرب أعمالي تستدعي أن يكون لي وارث يرث محبتي للشعب الذي وضعتني العناية عليه. وقد مضى علي عدة سنوات مع الإمبراطورة "جوزفين" حتى قطعت الأمل من أن يكون لي أولا منها, وهذا هو الداعي الذي حملني على التضحية بأشد عواطف قلبي ومراعاة مصالح رعيتي وطلب انفصالنا. وقد بلغت الآن الأربعين من العمر وآمل أ، أعيش طويلا بعد وأن أحتضن في أفكاري الأولاد الذين تسر العناية بأن تباركني بهم, والله وحده يعلم كم كلفت قلبي هذا المقصد ولكن ليس من أمر مهما كان عزيزا علي إلا وأنا أضحيه طائعا مختارا لمصلحة فرنسا, وليس لي سبب أشكو منه ولا شيء أقوله سوى مدح محبة امرأتي المحبوبة وحنوها, فإنها زينت خمس عشرة سنة من حياتي فيبقى ذكرها منقوشا على صفحات قلبي إلى الأبد وأنا بيدي توجتها إمبراطورة ستبقى إمبراطورة في القلب والرتبة وأحب فوق كل ذلك أن لا تشك مطلقا بعواطفي من نحوها ولا تعتبرني إلا أعز صديق لها".
فأجابت "جوزفين" بصوت منقطع وعينين مغرورقتين بالدموع: "إني أجيب على آمال كلام الإمبراطور من جهة انفصالنا بالقبول لأن اجتماعنا كان حائلا دون مسيرة فرنسا بسبب عدم وجود من يسوس يوما ما هذا الشعب من نسل هذا الإنسان العظيم الذي أقامته العناية لكي يطفئ شرر الثورة المخيفة, ويرجع المذبح والعرش والهيئة الاجتماعية, ولكن هذا الانفصال لا يغير عواطف قلبي بل سيجد الإمبراطور في أحسن صديقة له, وأنا أعلم ماذا كلف هذا العمل السياسي قلب الإمبراطور, ولكن نحن الاثنان نفتخر بهذه التضحية التي ضحيناها لأجل خير المملكة, وأشعر أنين التعظيم والمجد بإيرادي بإعطائي أعظم برهان على محبتي".
هذا ما أظهرته "جوزفين" جهارا, وأما في الخفاء فإنها استسلمت للحزن والكآبة وقضت ستة أشهر بالبكاء والنحيب حتى قاربت العمى من شدة الحزن.