أجبت لما دعيت طوعا ... ملبيا للذي دعاني
وخفت مما جنيت قدما ... فأوقع الحب بالأمان
ولما أعيته الحيل ذهب بها المارستان راجيا أن تشفى مما أصابها ولما دخلت البيمارستان أودعوها في حجرة مغلولة اليدين مقيدة الرجلين فلما رأت ذلك بكت بكاء مرا وأنشدت تقول:
أعيذك أن تغل يدي ... بغير جريمة سبقت
تغل يدي إلى عنقي ... وما خانت وما سرقت
وبين جوانحي كبد ... أحس بها قد أحترقت
وحقك يا منى قلبي ... يمينا برة صدقت
فلو قطعتها قطعا ... وحقك عنك ما رجعت
ويروى عن السري السقطي أنه قال: دخلت يوما على تحفة في المارستان فوجدتها أنضر الناس وجها وعليها أطمار حسنة، فشممت منها رائحة عطرية وهي تفوح شذاها إلى خارج المارستان، فسألت القيم عنها فقال: هي جارية مملوكة قد اختل فحبسها مولاها لعلها تنصلح، فلما سمعت كلامه اغرورقت عيناها بالدموع، ثم أنشدت:
معشر الناس ما جننت ولكن ... أنا سكرانة وقلبي صاحي
أغللتم يدي ولم آت ذنبا ... غير جهدي في حبه وافتضاحي
أنا مفتونة بحب حبيب ... لست أبغي عن بابه من براح
فصلاحي الذي زعمتم فسادي ... وفسادي الذي زعمتم صلاحي
ما على من أحب مولى الموالي ... وارتضاه لنفسه من جناح
قال السري: فسمعت ما أقلقني وأشجاني، وأحرقني وأبكاني، فلما رأت دموعي قالت: يا سري، هذا بكاؤك من الصفة فكيف لو عرفته حق معرفته ثم أغمي عليها، فلما أفاقت جعلت تقول:
ألبستني ثوب وصل طاب ملبسه ... فأنت مولى الورى حقا ومولائي
كانت بقلبي أهواء مفرقة ... فاستجمعت مذ رأتك العين أهوائي
من غص داوى بشرب الماء غصته ... فكيف يصنع من قد غص بالماء
قلبي حزين على ما فات من زللي ... والنفس في جسدي من أعظم الداء
والشوق في خاطري مني وفي كبدي ... والحب مني مصون في سويداء
إليك منك قصدت الباب معتذرا ... وأنت تعلم ما ضمته أحشائي
فقال لها السري: يا جارية سمعتك تذكرين المحبة فلمن تحبين؟ قالت: لمن تعرف إلينا بنعمائه وجاد علينا بجزيل عطائه، فهو قريب إلى القلوب، مجيب لطلب المحبوب، سميع عليم، بديع حكيم، جواد كريم، غفور رحيم، ثم أنشأت تقول:
قلبي أراه إلي الأحباب مرتاحا ... سكران من راح حب بالهوى باحا
يا عين جودي بدمع خوف هجرهم ... فرب دمع أتى للخير مفتاحا
ورب عين رآها الله باكية ... بالخوف منه تنال الروح والراحا