لا أشك أن أكون من أمرها على ثقة ولكن لا بأس من التأني ريثما تمتحن.
ثم أتاها برهط من مهرة الأطباء وأساطنة العلماء وحاولوا أن يفقروها بمسائل مشكلات وغوامض حتى إذا أعيتهم الحيل وعادوا بالخيبة والفشل عززها الملك بكتيبة من خواص فرسانه فبرزت أمام الجيش شاكة السلاح، معتقلة بيدها رمحاً وبالأخرى راية وأخذت تعدو على جوادها متفننة في أنواعالفروسية حتى سحرت الناظرين فهتفوا ترحيباً بها واستحساناً لها وتعجباً منها.
ثم صارت بجيشها تنهب الأرض هملجة وخبباً حتى بلغت العسكر في "أورليان" وإذا بأرواح القوم تكاد تبلغ التراقي والعدو محيط بالمدينة إحاطة الهالة بالبدر وأهلها في شدة من ضيق الخناق، فأمرت بادئ بدأة بتطهير العسكر من عواهر النساء، وحضت الرجال على الاستمساك بالتقوى والاعتصام بالرجاء، ثم زحفت على البلد، فاستول ىالرعب على قلوب الإنكليز وقالوا: ما هذه بشر إن هي إلا ملك كريم، أو ساحر أثيم، وكانت ترتدي بحلة بيضاء وتركب جواداً أشهب وتنشر فوقها راية بيضاء فإذا بصر بها الإنكليز وهي في هذا الهندام فروا من أمامها كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة.
وما برحت تصدق الحملة وتتابعها وتبلي بالعدو البلاء الحسن وهي تتجرع من انحراف جيشها عنها وعدم انقياده لها أنواع الغصص واضروب الإحن حتى استتب لها الفوز فضعف الإنكليز واستكانوا وضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا فألجأوا إلى الجلاء على "أورليان" فكفوا عن حصارها في ١٨ أيار سنة ١٤٢٩م، وانهزموا لا يلوون على شيء فسارت "جان دارك" إلى "بلوا" لتهنئ الملك بما أوتيه على يدها من النصر، وكان القرويون في تلك الأصقاع يتسابقون لمرآها، ويتزاحمون على لثم أقدامها وملس ثراها، فأكرم رجال البلاد وفادتها، ودعاها الملك إلى وليمة فأبت قائلة: إن الوقت وقت جهد وثبات لا وقت قصف ولذات، وإن الروح أنبأني بأن الموت قد دنا فتدلى حتى صار على قاب قوسين، وإنه لم يبق بيني وبينه أكثر من عامين فاذهب بحقك إلى "رام" حيثما أتوجك بيدي وبعد ذلك يفعل الله ما يشاء، وصارت أمامه بفصيلة من الجيش حتى إذا بلغت "جارجوا" اعترضها العدو فهاجمته، ورقت سلماً نصب لها على السور فرميت من أعلاه بما جند لها من الخندق، فصرعت، ولكنها أفاقت بعد قليل، وجعلت قائد الجيش يستثير حمية العساكر بكلام أرق من السحر وأفعل في الرؤوس من نشوة الخمر، وهي تعاني آلاماً مبرحة فدبت النخوة في صدور الرجال وحملوا حملة صادقة أذاقت العدو الأزرق بلاء أسود، وأرته من بريق النصل الأبيض موتاً أحمر، فاستولت على البلد عنوة بعد أن أسرت، ولما طار الخبر إلى الأمير "تلبوت" قائد الإنكليز العام أخلى سائر المدن وكر قافلاً إلى باريس وما برحت "جان دارك" آخذة في سيرها، وكلما عثرت بشرذمة فتكت بها حتى بلغت مدينة "رام"، وهناك تم تتويج "شارل" في ١٧ تموز سنة ١٤٢٩م، وكانت "جان دارك" ممسكة بسيفه وعليها أثواب الكماة.
وبعد انقضاء الحفلة جثت عند قدميه وعانقتهما باكية ثم قالت: اليوم أكملت لكم نصركم وأنجزت كل ما وعدتكم فأطلقوا سراحي فأعود إلى أبي قريرة العين حيثما أرعى الماشية وأغزل الصوف جرياً على سنة بيت ربيت فيه، ونشأت عليه فامتنع الملك قائلاً: كيف أغادر من بها نجاة الزة وإليها يرجع أمر استتبات راحتها، وعليها يتوقف استكمال سعادتها، ذلك لأن الناس كانوا قد ازدادوا بها اعتقاداً وعلقوا على بسالتها وإقدامها آمالاً طوالاً حتى كانوا يرون حول رايتها أرواحاً من الفراش البراق، فساءها امتناع الملك وعرتها من تلك الساعة الكآبة والحزن وفارقها ذلك الرشد والنشاط، وذهبت عنها تلك الحمية والبسالة، وانقطعت عنها أحلامها الروحانية حتى أصبحت أعمالها رهينة الحيرة والفشل وأقوالها قرينة الوهم والركاك، وكانت تُرى أبداً حائرة النفس