شجاعة وشهرة لم يسبقها عليها أحد من نساء اليونان، وتقاطرت على بابها العلماء والشعراء والفلاسفة والرياضيون والبلغاء، وكان ناديها أحسن ناد جمع فيه العلم والأدب، ولذلك وصفتها المؤلفة الشهيرة مدام (أون) في كتابها المشتمل على سير أبطال النساء عند ترجمتها إذ قالت: إن بيتها أعظم بيت من بيوت عظماء اللاتينيين فلذلك لو نظرت إلى جدرانه تجدها مرصعة بتماثيل الرجال العظام، وأمام بابه رواق رفيع العماد وعلى الباب أسجاف الأرجوان، وبجانبه أفاريز من المرمر الأصفر وكوى البيت مشكبة كلها بقضبان النحاس على أشكال وضروب شتى، وأرضه مغطاة بالفسيفساء البديعة الأشكال، وعليها أرائك من القرمز والأرجوان، أهدابها مطرزة بالذهب، وفي البيت مكتبة من الخشب الثمين مملوءة بالدروج من الرق والحلفاء فلو نظر القارئ في الصباح إلى هذا البيت يرى (أسباسيا) قد نزلت من غرفتها على درج من المرمر الأبيض ومشت فيا لصحن، وخرجت إلى الرواق الجنوبي الذي يطل على بستان البيت لتستنشق نسيم الصباح مضمخا بأريج الأزهار والرياحين، وخرج (بركليس) وهو ماش بجانبها وتجاذبا أطراف الحديث في السياسة والفلسفة وهي طويلة القامة ممشوقة القد جعدة الشعر شقراؤه، نجلاء العينين حوراؤهما، شماء الأنف صغيرة الأذنين، حمراء الوجنتين والشفتين.
تفتر عن لؤلؤ رطب وعن برد ... وعن أقاح وعن طلع وعن حبب
لابسة رداء أبيض على ردنيه أبازيم من الذهب وفوقه رداء قصير من الأرجوان بل أردان أذياله مطرزة بالذهب وعلى كتفيها رداء ثالث مسدول عليهما سدلا، والنسيم يبعث به في ذهابها وإيابها فتخالها ملكا ناشرا جناحيه للطيران وفي أصابعها خواتم الذهب مرصعة بالحجارة الكريمة ولم تكن (أسباسيا) من ربات الغنج والدلال اللواتي يباهين بالحلي والحلل، بل من أهل الحجة المربين مع الفلاسفة والحكماء، وكان بيتها هذا ناديا تتقاطر إليه الفلاسفة ورجال السياسة كسقراط وأفلاطون وغيرهما فتباحثهم في أسماء المواضيع الفلسفية والسياسية حتى إذا كل عصب الدماغ منها ومنهم أدارت أزمة الحديث إلى الفكاهات واللطائف تديرها عليهم صرفا فتسكرهم بعذوبة كلامها كما أسكرتهم بسمو معانيها، وكان سقراط الحكيم يعترف بفضلها عليه ويشهد بأنها هذبت أخلاقه وكملت معارفه و (بركليس) زوجها كان ينسب إليها كل شهرته في الخطابة وقال: إنه تعلم منها البلاغة والسياسة.
وكان نساء أثينا يترددن على بيتها أيضا ويتعلمن منها التهذيب واللباقة، وكانت الفنون الجميلة كالتصوير والبناء والنقش في أوج مجدها فعضدتها (أسباسيا) بيمينها وسعت جهدها في رفع شأن ذويها ولم تكن هذه الفاضلة من الأثينيات، ولذلك لم تحسب زوجة شرعية ل (بركليس) لأن شريعة أثينا كانت تحرم على الأثينيين اتخاذ الزوجات من الأجانب إلا أن جمالها المفرط وسمو عقلها وغزارة معارفها، وكثرة فضائلها ألجمت ألسن الناس عن الطعن عليها زمانا طويلا، والحسد - وقاك الله منه - عدو وألد لا يبهره الجمال، ولا تتغلب عليه الفضائل فنفخ في آذان بعض ذويه فقاموا عليها واتهموها باحتقار الأثينيات وبلغت القحة منهم حتى طعنوا في عرضها واتهموا معها (آتكفوراس) الفيلسوف (وفيدياس) النقاش فقتلوا أحدهما ونفوا الآخر نفيا مؤبدا وحامى (بركليس) عنهما بكل جهده فلم يستطع إنقاذهما.
ولما وصل الدور إلى (أسباسيا) صار كله ألسنة وبلاغة فدافع عنها في مجمع (أرنوس باغوس) ، وكان من أفصح أهل زمانه لسانا، وأثبتهم جنانا، وأقواهم حجة، ولما عجز لسانه عن أقوال إربه دافع عنه بدموع عينيه حتى قيل: إنه أنقذها من الموت بالدمع ولم يكن من ضعاف العزائم الذين تفيض دموعهم عند أخف النكبات ولا كان من المتعلقين بحبال الهوى المنقادين بزمام الشهوات فإنه لما فشا الوباء واختطف ابنته البكر وأخته وكثيرين من أقاربه تحمل هذه النكبة الشديدة بصدر أرحب من البيد، وصبر أغزر من البحر، ولم يسكب عليهم دمعة، ولكنه لما رأى الفضيلة مهانة بإهانة زوجته، والعفة والطهارة مهتوكة أستارها ظلما وعدوانا