وبعد أن فرغت من مناولة الطعام استدعتني إليها، فلما حضرت وجدتها تدخن بقضيب طويل، واستحضرت لي قضيبا لأدخن أيضا قال: وكنت قد رأيت أجمل نساء الشرق وأظرفهن يدخن مثلها فلم أستغرب ذلك، وكان الدخان ينبعث من شفتيها اللطيفتين على شكل أعمدة فتعطرت به الغرفة، وأقمنا نتحدث في أمورها وأطلت فيها التفكر فتبين لي أنها أشبه بالساحرات القديمات المشهورات وهي أشبه ب (سيرسه) معبودة الأقدمين، وأن عقائدها الدينية وإن كانت غامضة فهي مقتطفة بحذق من أديان مختلفة فقد جمعت بين أسرار (الدروز وتسليم المسلمين واعتقادهم القدر، وانتظار اليهود مجيء المسيح، وعبادة النصارى للمسيح، وممارسة تعاليمه وآدابه، وزد على ذلك التصورات البعيدة الغريبة الناشئة عن فكر مشغوف بالشرق، ومتوقد بطول العزلة والانفراد وبعض إيضاحات أوضحها لها المنجمون العربيون فإذا تصورت ذلك كله انجلى لك شيء من هذا السر العظيم المستغرب الذي يؤثر في الإنسان ما يسميه جنونا ليتخلص من مشقة البحث وإمعان النظر فيه.
والحق أولى أن يقال: إن هذه المرأة غير مجنونة فإن للجنون أمارات واضحة تظهر في العنيني وليس له أثر البتة في تلك الألحاظ اللطيفة ويظهر الجنون أيضا في الكلام فإن صاحبه كثيرا ما ينقطع عن الحديث فترى فيه اختلالا وشططا أما حديثها فسامي المعاني رمزي متسلسل مرتبط منتسق قوي وفي مذهبي أن جنونها اختياري وأنها تعرف نفسها حق المعرفة ولها أسباب تحملها على التظاهر بما قد تظاهرت به وما أخذ القبائل العربية المجاورة للجبال من العجب من حذقها وبراعتها يدل دلالة واضحة على أن ما ترجم به من الجنون إنما هو وسيلة لبلوغ بعض مآرب ولا يخفى أن سكان أرض أجريت فيها العجائب وكثرت فيها الصخور والبراري وتلونت تصوراتهم بألوان جوهم لا يصيخون سمعا إلا إلى كلام نبي أو إلى كلام من كان ك (لاري ستنهوب) فإنهم يميلون إلى فن التنجيم والنبوات والوحي وما أشبه وقد عرفت ال (لاري) المذكورة ذلك واتضحت لها الحقيقة لما هي عليه من قوة الحذق، ولكن ربما ساقتها القوة المذكورة كما هو الغالب في أمثالها إلى الاهتداء إلى مذهب وضعته لغيرها.
وبعد أن جالت هذه التصورات في فكري قلت لها: لا ألومك إلا على أمر واحد، وهو أنك حسبت للحوادث حسابا فعاقك ذلك عن الوصول إلى مركز كان في طاقتك أن تصلي إليه. فأجابته: إنك تتكلم كمن يعتقد اعتقادا صحيحا في الإرادة البشرية، ويشك في فعل القدر، فقوتي على حالها لم تتغير غير أنني انتظر سنوح الفرصة ولا أجد في طلبها وقد أمسيت وحدي مهجورة بين هذه الصخور القفرة عرضة لمفاجئ جسور يطرق منزلي فينهب أمتعتي وحولي جماعة من الخدم الخائنين والعبيد الكنودين وهم ينهبونها في كل يوم ويتهددون حياتي أحيانا وفي المدة الأخيرة لم ينجني من الموت الأحمر إلا هذا الخنجر (وأرته إياه) الذي اضطرني الأمر إلى استخدامه لأدفع عني عبدا أسودا لئيما ربي في بيتي، ومع ذلك تراني سعيدة بقولي: الله كريم وأتوقع المستقبل الذي أخبرك به ويا حبذا لو كنت تحققه مثلي.
وبعد أن تباحثنا كثيرا وشربنا القهوة التي كان يأتي بها العبيد كل ربع ساعة مرة قالت لي: هلم، فإني سأسير بك إلى مكان مقدس لا يدخله أحد من البشر وهو بستاني فدخلناه وجلسنا فيه مسروري الفؤاد لأنه من أجمل البساتين الشرقية التي رأيتها وكنا من وقت إلى آخر نجلس في الكشوك براحة ونتحدث على النسق الأول فلبثنا مدة على هذه الحالة ثم التفتت إلي وقالت: إذا كان القدر قد ساقك إلى هذا المكان وما بين نجمينا من الاتفاق يمكنني من مكاشفتك بأمور أخفيها عن كثيرين من بني البشر سأريك بعينك عجيبة من عجائب الطبيعة لا يعرف مستقبلها إلا أنا وأتباعي وهي التي ذكرها الأنبياء الشرقيون منذ قرون عديدة في نبواتهم، ثم فتحت بابا من أبواب البستان يشرف على حوش صغير فوقع نظري على حجرتين عربيتين جميلتين من أطيب أصل وأكمل شكل فقالت لي: هيا بنا فأريك هذه المهرة الكميت، ألم تتحفها الطبيعة بكل ما هو مكتوب عن المهرة التي ينبغي أن يركبها المسيح (وستوله مسرجة)