وذكر أحد الذين حضروا هناك أنها كانت تظهر أمامهم بجميع المظاهر وتبين لهم القلب البشري بكل أوصافه فكانت تظهر تارة بزي القتلة، فتبدو على وجهها علامات الغضب والشر حتى لا يشك الناظر أنها قاتلة ثم تمثل دورا لطيفا فتغلب عليها طبيعة النساء وتظهر من الرقة واللطف ما يخلب الألباب، وهكذا كانت تتلاعب بالحاضرين كأنهم آلة في يدها، ومما يدل على ثباتها وعزمها ما أظهرته في تمثيل رواية "بايزيد" فإنها مثلتها أول مرة في ٢٣ (نوفمبر) سنة ١٨٣٨م، ولم تنجح فعادت بالفشل. وفي اليوم الثاني نشرت الجرائد الخبر في المدينة كلها وقام الانتقاد عليها من كل صقع وناد، ولما رأت ذلك سارت إلى صديقها "جانن" الذي مر ذكره لعلها تلطف حكمه عليها ولو قليلا فقابلها بلطف وبين لها غلطها ونصحها أن لا تقدم على تمثيل هذه الرواية مرة أخرى فقالت له: إني سأمثل هذه الرواية بعد رغما عن كل أهل باريس ومثلتها، كما قالت، فنجحت النجاح التام حتى أذهلت الحاضرين، وكان "ألفردميست" من جملة المشهرين لها فإنه كان يمدحها في الجرائد ويحث الناس على الأخذ بيدها وتنشيطها. حكي أنه صادفها ذات ليلة خارجه من التياترو الفرنساوي فدعته مع بعض الأصدقاء إلى العشاء قال: لما وصلوا إلى البيت نظرت إلى يديها فرأت أنها نسيت أساورها وخواتمها في التياترو فأرسلت خادمتها تجيء بها إليها، ولما لم يكن في بيت أبيها غير هذه الخادمة قامت هي بنفسها وذهبت إلى المطبخ ثم عادت بعد ربع ساعة ووضعت أمامها صحناً من المرق وبعض اللحم المشوي وطلبت إلينا أن نأكل من الصحون الكبيرة إذ كانت الصحون الصغيرة في الخزانة، والمفتاح مع الخادمة، وكانت وهي على العشاء تحدثنا عن حالتها الأولى وما كان أبوها عليه من الفقر وكانت والدتها وأخواتها ينظرون إليها شزرا ويشيرون إليها بأن تسكت.
أما هي فأجابتهم: أنه لا عيب في الفقر بل إنها تفخر بأنها نشأت من حال كهذه ووصلت إلى ما وصلت إليه بجدها. وبعد العشاء ذهب الأصدقاء وبقيت أنا وحدي فأخذت تقرأ لي أشعار "راسين" وقد رأيت أنها تفهمها جيدا، ودامت كذلك حتى مضى نصف الليل ورجع أبوها، فلما رآها انتهرها وأمرها بأن تنام حالا فقامت والدموع ملء عينها وسمعتها تقول وهي ذاهبة: سأشتري قنديلا وأضعه في غرفتي الخصوصية حتى لا يمنعني أحد من المطالعة، فذهبت متعجبا من اجتهادها وثباتها.
وذكر في موضع آخر أنه تغدى عندها ذات يوم وكان على الغداء عدة من الأصحاب فنظر أحدهم إلى يدها وقال لها: ما أجمل خاتمك! فقالت له: إذا كان قد أعجبك فسأضعه تحت المزايدة فدفع أحد الحضور خمسمائة فرنك ودفع الآخر ألفا، وهكذا حتى بلغ ثلاثة آلاف، ثم التفتت إلي وقالت لي: وأنت كم تدفع؟ فأجبتها: إني أدفع محبتي فرمت بالخاتم إلي وطلبت مني إتمام وعدي بنظم دور كانت طلبته مني.
وذهبت "راحيل" إلى إنكلترا مرة ثانية سنة ١٨٥٥م فشخصت في قصر الملكة فأنعمت عليها الملكة بسوار قد كتبت عليه بالألماس إلى "راحيل" من الملكة "فيكتوريا"، وأرسل إليها "دوق ولنثون" رسالة يقول فيها" إني أرسل احتراماتي إلى الماداموازل "راحيل" وقد استأجرت "لوجن" في التياترو حتى أتمكن من حضور تمثيلها.
وذهبت سنة ١٨٥٥م إلى أمريكا ولكنها لم تنجح لأن الأميركان لا يهتمون كثيرا بالروايات الفرنساوية لأنهم لا يفهمونها واشتد عليها مرض الصدر في نيويورك فرجعت إلى فرنسا وأشار الأطباء عليها بالقدوم إلى مصر فأتت إليها ولكنها لم تستفد كثيرا فيها لأنها شعرت بنفسها أنها وحيدة بعيدة عن أصدقائها حتى إنها كتبت إلى فرنسا تقول: إني سأموت من الوحدة لا من فعل المرض، لأني أرى حولي سوى خرائب الهياكل وأنقاض الأبنية