وفي "كامل ابن الأثير" أنها سمعت الحسين وهو في كربلاء قبل مشهده يقول:
يا دهر أف لك من خليل ... كم لك بالشريف والأصيل
من صاحب أو طالب قتيل ... والدهر لا يقنع بالبديل
وإنما الأمر إلى الجليل وكل هالك سالك السبيل
فأعادها مرتين أو ثلاثا، فلما سمعته لم تملك نفسها أن وثبت تجر في ثوبها حتى انتهت إليه ونادت:"وا ثكلاه، ليت الموت أعدمني الحياة اليوم ماتت فاطمة أمي وعلي أبي، والحسين أخي يا خليفة الماضي وثمال الباقي" فذهب فنظر إليها وقال: أخية لا يذهبن حلمك الشيطان! قالت: لو ترك القطا لنام فلطمت وجهها وقالت: "وا ويلتاه أفتغصبك نفسك اغتصابا فذلك أقرح لقلبي واشد على نفسي". ثم لطمت وجهها وشقت جيبها وخرت مغشيا عليها فقام إليها الحسين فصب الماء على وجهها وقال: اتقي الله وتعزي بعزاء الله واعلمي أن أخل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون وإن كل شيء هالك إلا وجه الله أبي خير مني، وأمي خير مني، وأخي خير مني ولي ولهم ولكل مسلك برسول الله أسوة حسنة فعزاها بهذا ونحوه.
ولما حملوا السبايا إلى الكوفة اجتازوا بهن على الحسين وأصحابه صرعى فلطمن خدودهن وصاحت زينب أخته:"يا محمداه، صلى عليك ملائكة السماء. هذا الحسين بالعراء، مزمل بالدماء، مقطع الأعضاء وبناتك سبايا، وذريتك مقتلة تسقى عليها الصبا". فأبكت كل عدو وصديق.
فلما أدخلوهم على ابن زياد لبست أرذل ثيابها وتنكرت وحفت بها إماؤها فقال عبيد الله: من هذه الجالسة؟ فلم تكلمه فقال ذلك ثلاثا وهي لا تكلمه فقال بعض إمائها: هذه زينب ابنة فاطمة. فقال لها ابن زياد -لعنه الله-: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم. فقالت:"الحمد الله الذي أكرمنا بمحمد وطهرنا تطهيرا لا كما تقول إنما يفتضح الفاسق، ويكذب العاجز". فقال: كيف رأيت صنع الله بأهل بيتك؟ قالت:"كتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتختصمون عنده". فغضب ابن زياد وقال: قد شفي غيظي من طاغيتك والعصاة المردة من أهل بيتك فبكت وقالت: "لعمري لقد قتلت كهلي، وأبرزت أهلي، وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي فإن يشفك هذا فقد اشتفيت". فقال لها: هذه شجاعة لعمري لقد كان أبوك شجاعا. فقالت:"ما للمرأة والشجاعة".
فلما نظر ابن زياد إلى علي بن الحسين قال: ما اسمك؟ قال: علي بن الحسين. قال: أولم يقتل علي بن الحسين؟ فسكت. فقال: ما لك لا تتكلم؟ فقال: كان لي أخ يقال له أيضا علي فقتله الناس. فقال اللعين ابن زياد: إن الله قتله. فسكت علي، فقال: مالك لا تتكلم؟ فقال: الله يتوفى الأنفس حين موتها (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله)(آل عمران: ١٤٥) فقال: أنت والله منهم، ثم قال لرجل: ويحك، انظر هذا هل أدرك أني لأحسبه رجلا فكشف عنه مري بن معاذ الأحمر فقال: نعم، قد أدرك قال: اقتله. فقال علي: من يتوكل بهذه النسوة؟ وتعلقت به زينب فقالت:"يا ابن زياد حسبك منا أما رويت من دمائنا وهل أبقيت منا أحدا" واعتنقته، وقالت:"أسألك بالله إن كنت مؤمنا إن قتلته أن تقتلني معه".
وقال علي: يا ابن زياد إن كان بينك وبينهن قرابة فابعث معهم رجلا تقيا يصحبهن بصحبة الإسلام فنظر إليها ساعة ثم قال: عجبا للرحم والله إني لأظنها ودت لو أني قتلته أن أقتلها معه دعوا الغلام ينطلق مع نسائه، ولما دخلن الشام على يزيد بن معاوية والرأس بين يديه جعلت فاطمة وسكينة ابنتا الحسين تتطاولان لتنظرا إلى الرأس وجعل يزيد يتطاول ليستر عنهما الرأس