ما كان أحسن غناءها وأرق صوتها وأنجى حلقها وأحسن ضربها بالمزاهر والمعازف وسائر الملاهي وأجمل وجهها وأظرف لسانها وأقرب مجلسها وأكرم خلقها وأسخى نفسها وأحسن مساعدتها.
وقال طويس: يصف عزة: هي سيدة من غنى من النساء مع جمال بارع، وخلق فاضل، وإسلام لا يشوبه دنس. تأمر بالخير وهي من أهله، وتنهى عن السوء وهي مجانبة له. فناهيك ما كان أنبلها وأنبل مجلسها. ثم قال: كانت إذا جلست جلوسا عاما فكأن الطير على رؤوس أهل مجلسها من تكلم أو تحرك نقر رأسه.
وقال ابن إسلام: فما ظنك بمن يقول فيه طويس هذا القول ومن ذا الذي سلم من لسان طويس.
وقال معبد: إنه أتى عزة وهي عند جميلة وقد أسنت وهي تغني على معزفة في شعر ابن الأطنابة:
عللاني وعللا صاحبيا ... واسقياني من المروق ريا
قال: فما سمع السامعون قد بشيء أحسن من ذلك. قال معبد: هذا غناؤها وقد أسنت فكيف بها وهي شابة وقال صالح بن حسان الأنصاري كانت عزة مولاة لنا وكانت عفيفة جميلة وكان عبد الله بن جعفر وابن أبي عتيق وعمر بن أبي ربيعة يغشونها في منزلها فتغنيهم وغنت يوما عمر بن أبي ربيعة لحنا لها في شيء من شعره فشق ثيابه وصاح صيحة عظيمة صعق معها، فلما أفاق قالت له: لغيرك الجهل يا أبا الخطاب قال: إنس سمعت والله ما لم أملك معه نفسي ولا عقلي، وكان حسان بن ثابت معجبا بعزة الميلاء وكان يقدمها على سائر قيان المدينة، وكان يزيد بن ثابت ختن ابنته فأولم فاجتمع إليه المهاجرون والأنصار وعامة أهل المدينة وحضر حسان بن ثابت وقد كف يومئذ وأقبلت الميلاء وهي يومئذ شابة فوضع في حجرها مزهر، فضربت به ثم تغنت فكانت أول ما ابتدأت به شعر حسان قوله:
فلا زال قبر بين بصرى وجلق ... عليه من الوسمي جود ووابل
وحسان يبكي وابنه يومئ إليها أن تزيد فإذا زادت بكى حسان وقال خارجة بن زيد: فلما طال جلوس حسان ثقل علينا مجلسه فأومأ ابنه إلى عزة فغنت:
أنظر خليلي بباب جلق هل ... تبصر دون البقاء من أحد
فبكى حسان حتى سدر ثم قال: هذا عمل الفاسق - يعني ابنه - أما لقد كرهتم مجالستي فقيح الله مجلسكم سائر اليوم وقام فانصرف.
وقال عبد الله بن أبي مليكة كان رجل من أهل المدينة ناسك من أهل العلم والفقه وكان يغشى عبد الله بن جعفر فسمع جارية مغنية لبعض النخاسين تغني: باتت سعاد وأمسى حبلها انقعا.
فشغف بها وهام وترك ما كان عليه حتى مشى إليه عطاء وطاووس فلاماه فكان جوابه لهما أن تمثل بقول الشاعر:
يلومني فيك أقوام أجالسهم ... فما أبالي أطار اللوم أم وقعا
وبلغ عبد الله بن جعفر خبره فبعث إلى النخاسين فاعترض الجارية وسمع غناءها بهذا الصوت وقال لها: ممن أخذته؟ قالت: من عزة الميلاء، فابتاعها بأربعين ألف درهم، ثم بعث إلى الرجل فسأله عن خبره فأعلمه إياه وصدقه عنه فقال له: أتحب أن تسمع هذا الصوت ممن أخذته عنه تلك الجارية قال: نعم، فدعا بعزة وقال لها: غنيه إياه فغنته، فصعق الرجل وخر مغشيا عليه. فقال ابن جعفر: أثمنا فيه الماء الماء فنضح على وجهه، فلما