للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قلت: نعم إن علمي به قد حداني إلى صرف النظر عن تعلمه فما أكثر العازفين عدا وأقلهم معرفة تامة به لأن علم البيانو إنما هو علم يراد هـ معرفة الأنغام من أول مرة بحسب أية نوطة كانت وسرعة عزفها والوصل إلى هذا الحد من المعرفة لا يحصل بمدى عشر سنوات، وإن كانت متمادية وها نحن الآن نكلف هذه السيدة أن تضرب على الآلة فتنظرين أنها تحسن الضرب جيدا ولكن ليكن معلومك أن الأنغام التي ستطربنا بها قد كررتها على النوطة عدة مرات حتى أمكن لها الإجادة بها على أن المقصد من البيانو هو غير ذلك وما دام أنه يوجد من يعزف على البيانو في هذا المجلس فالبيانو موجود والنوطة موجودة أيضا، وفي هذا الحال يجب ضرب النغم على البيانو عند النظر إلى النوطة، لن مراجعة الأنغام على النوطة عدة مرات وتكرير العزف بها لا يسمى عزفا ولا يترك في المرء ميلا لسماعها.

أما أنا فإنني عندما بدأت في درس البيانو اشتغلت به أربع سنوات متولية بمزيد الرغبة والاجتهاد، وتعلمت النوطة بسرعة لا مزيد عليها، وقد أخبرني العارفون بالبيانو أن عزفي به كان حسنا وملذا غير أن وصولي إلى الدرجة المقصودة حقق عندي ما جيب من المدة لبلوغ المطلوب فإن تجربتي أرتني أن أستاذي لم يتوفق إلى هذا الأمر فحملت ذلك على عدم كفاءته واستبدلته بأستاذ طائر الشهرة في هذا الفن، وأول عمل بدأت به أنني فتحت أمام نوطة لم يكن له عهد سابق فلم يسحن نغمها إلا عد أن كررها ثلاث مرات فعدلت عن التحري على أستاذ آخر ولكن أخذوا يستغربون عملي ويقولون: إنه لا يمكن الحصول على أستاذ اعرف به فأخبرتهم بمطلوبي فأنبؤني أنه قد يمكن أن يوجد في دار السعادة شخص أو شخصان من الطرز المطلوب وعلمت من نتيجة تحقيقاتي أن مع الاستعداد التام والاستمرار على العزف يوميا أربع أو خمس ساعات يمكن تعلم البيانو خلال خمس عشرة سنة من حياتي على تعلم هذه الآلة تأسفت على التعب الذي نالني في مدة أربع سنوات وضربت صفحا عن درس البيانو، فالآن صرت إذا رأيت نغما أعجبني أفتح النوطة ولا أتمكن من إتقانه إلا بعد أن أكرره لا أقل من خمس عشرة مرة، فهل ذات الخدر تحسن العزف بالبيانو؟ قالت ذات البعل: نعم، تعرف أن تعزف به ولكنها لم تصل بعد إلى درجتي بل يلزمها وقت أيضا.

قلت: تلطفي وأسمعينا قليلا من أنغامك اللطيفة.

فنهضت ذات البعل وجلست إلى البيانو ورفعت غطاءه وبعد أن نظرت إلى العلامة التي في داخله قالت: إنه بيانو بارزي لا جرم أن أحسن أجناسه إنما تصنع في باريز غير أن في بعض الجهات في أوروبا يصنعون منه جنسا حسنا ما أمكن، ولقد نظرت في حوانيت (بك أوغلي) كثيرا من هذه الآلات التي تنتسب إلى عدى أماكن فسألت عما إذا كان يوجد كمن صنع هذه البلاد فأخبروني انه لا يوجد فتعجب ولأجل ذلك أسألك ألا يصنعون عندكم من هذه الآلات.

فقلت لها: كلا، فإن العامل عندنا لم تترق الترقي المطلوب إلى هذا الحد ولقد كانت هذه الأشياء في الأزمنة السالفة ترسل من الشرق إلى أوروبا فانعكس الموضع وأصبحت ترد إلى الشرق من أوروبا. قالت: هل إن البيانو أرسل إلة أوروبا من الشرق؟ قلت: معلوم أن (شارلمان) كان أرسل بعض الهدايا إلى هارون الرشيد وبالمقابلة أهداه هارون الرشيد ساعة (وأرغون) وبعض الأقمشة النفيسة بحيث لما وصلت إلى أوروبا كان لها عند الأهالي وقع أشبه بالأمور السحرية، فكما أن الشرقيين يقلدون الأوروبيين في هذه الأيام هكذا كان (شارلمان) في عصره يقلد الدولة

<<  <   >  >>