ودرست النحو والصرف والبيان حتى فاقت نساء عصرها وأهل جلدتها, فذاع صيتها في الآفاق, ولما بلغت الثامنة عشرة من سنيها تقدم إليها الأمير علي بك الأسعد بالخطوبة فأنعم له شقيقها بها.
وكان الأمير المذكور حاكماً على بلاد بشارة ومحل إقامته قلعة تبنين التي هي قاعدة بلاد بشارة وتلك القلعة بناها هيوسنت أومر صاحب طبرية سنة ١١٠٧ م وجعلها معقلاً لغزو وصور وما يليها وهي على مرتفع صعب المرتقى في وسط بقعة خصبة وعامرة بين الجبال تكثر فيها الكروم والثمار والغابات, ويسميها الإفرنج "طورون" وكانت حصناً منيعاً مهماً وسمى بها عائلة أصحابها.
وسنة ١٥٥١ م أقيم "هونفردي" صاحب"تبنين" عاملاً للملك "بلدوين الثالث" وقد فتح هذه البلاد صلاح الدين الأيوبي سنة ١١٨٧ م الموافقة لسنة ٥٨٣ هجرية, وذلك أنه سير إليها ابن أخيه تقي الدين ففتحها وأخرج الإفرنج منها.
وسنة ٥٩٤ هـ كانت "تبنين" بيد الملك العادل بن صلاح الدين فرحل إليها الإفرنج وحاصرها وقاتلوا من بها وجدوا في القتال ونقبوا الحصن من جهاتهم, فلما رأى من القلعة ذلك خافوا على أنفسهم وأموالهم ليسلموا القلعة فقال لهم بعض الإفرنج: من يحمي نفسه وكان الملك العادل قد كاتب أخاه الملك العزيز بمصر فسار مجداً حتى وصل إلى عسقلان.
فلما علم الإفرنج ذلك وأن ليس لهم ملك أرسلوا إلى ملك قبرص وزوجوه ملكتهم وكان هذا محباً للسلم فكف عن حصار تبنين, ثم اصطلحوا مع الملك العادل وتعاقبت الملوك والأمراء على تملك تلك القلعة مدة مديدة حتى تملكها أمراء بيت علي صغير المذكورين الذين منهم الأمير علي بك الأسعد, وكانت السيدة فاطمة من تلك العائلة وأنهم كانوا في ذاك الوقت يحافظون على نسبهم الشريف من أن يخلطوا به نسب آخر من عامة الناس ولا يزوجون إلا لبعضهم البعض.
وكان الأمير علي بك الأسعد إذ ذاك كبير تلك العائلة مقاماً ورفعة وهو الحاكم الوحيد على بلاد بشارة من قبل الدولة العلية وكان مشهوراً بالكرم وحسن السياسة ومتصفاً بالعدل في أحكامها, ولما زفت إليه السيدة فاطمة نقلها من "الطيبة" التي هي بلد والدها ومسقط رأسها ومنبت صباها ومهد طفولتها إلى "تبنين" فشق ذلك على شقيقها محمد بك الأسعد وعلى أهلها وأهل بلدتها لأنها محسنة إلى الفقير من أهل البلد ومعنية للمسكين وعائدة للمريض, وكان يحبها كل من في تلك البلدة وكان شقيقها يعتمد عليها في بعض الآراء الإدارية وغيرها على صغر سنها.
ولما نقلت إلى تبنين نالت بحسن آدابها وكمال عقلها ورقة لطفها ونضارة جمالها حظوة عظيمة عند زوجها حتى ملكت زمام الأمور فضلاً عن تملكها فؤاد زوجها، وتقلدت إدارة الأشغال المنزلية، وفازت على كل نسائه وأهل ذاك النادي. فلما رأى منها علي بك ذلك الحزم والعزم الذي يفوق حزم أعاظم الرجال أحب مشاركتها في الأحكام، واعتمد على آرائها السديدة، فتعاطت الأحكام مع زوجها وشاركته بالرأي وحكمت وعدلت في حكمها بين الناس حتى أحبها الكبير والصغير والغني والفقير ولم يغيرها في مركزها الحقيقي ما صارت إليه من الدولة والسلطة عن حبها لفعل الخير والإحسان إلى الفقراء كما كانت تفعل في بيت أبيتها بل جعلت في دارها محلاً مخصوصاً لتربية الأولاد اليتامى وأولاد السبيل، وشهرت بفعل الخير وقصدها المضطرون ولجأ إليها الخائفون.
وكل ذلك لم يبذل لها حجاب بل كانت تتعاطى الأحكام من