فقال الحجاج ليحيى بن منقذ لله بلادها: ما أشعرها. ثم أقبل على جلسائه فقال لهم: أتدرون من هذه. قالوا: لا والله ما رأينا امرأة أفصح ولا أبلغ منها, ولا أحسن إنشاداً. قال: هذه ليلى صاحبة توبة, ثم قال لها: أي النساء تختارين أن تنزلي عندها؟ قالت: سمهن لي. فسماهن, فاختارت هند بنت أسماء, فدخلت عليها فصبت هند حليها عليها حتى أثقلتها لاختيارها إياها ودخولها عليها دون سواها, ولما كان الصباح قال الحجاج لعبيد بن موهب -حاجبه-: مر لها بخمسمائة درهم واكسها خمسة أثواب أحدها خز, ثم قالت: أصلح الله الأمير قد أضر بنا العريف في الصدقة, وقد خربت بلادنا وانكسرت قلوبنا فأخذ خيار المال فقال الحجاج: اكتبوا إلى صاحب اليمامة بعزل العريف الذي شكته.
وقيل: إن ليلى لما دخلت على الحجاج فلما قالت: (غلام إذا هز القناة سقاها) قال لها: لا تقولي غلام وقولي همام, فأمر لها بمائتين فقالت: زدني. فقال: اجعلوها ثلثمائة. فقال بعض جلسائه: إنها غنم. قالت الأمير أكرم من ذلك, وأعظم قدراً من أن يأمر لي إلا بالإبل. قال: فاستح وأمر لها بثلثمائة بعير وإنما كان أمر لها بغنم لا إبل.
وبينما الحجاج بن يوسف جالس يوماً دخل عليه الآذن فقال: أصلح الله الأمير بالباب امرأة تهدر كما يهدر البعير. قال: أدخلها فلما دخلت استنسبها فانتسبت له فقال: ما أتى بك يا ليلى؟ قالت: إخلاف النجوم وكلب البرد, وشدة الجهد, وكنت لنا بعد الله المرد. قال: فأخبريني عن الأرض. قال: الأرض مقشعرة, والفجاج مغبرة, وذو الغنى مختل, وذو الحد منفل. قال: وما سبب ذلك؟ قالت: أصابتنا سنون مجحفة مظلمة لم تدع لنا فصيلاً ولا ربعاً, ولم تبق عافطة ولا نافطة, فقد أهلكت الرجال ومزقت العيال, وأفسدت الأموال ثم أنشدته الأبيات التي ذكرناها متقدماً. وقال في الخبر, قال الحجاج: هذه التي يقال فيها:
نحن الأخايل لا يزال غلامنا ... حتى يدب على العصا مشهوراً
تبكي الرماح إذا فقدن أكفنا ... جزعاً وتعرفنا الرفاق بحوراً
ثم قال لها: يا ليلى, أنشدينا بعض شعرك في توبة, فأنشدته قولها: لعمرك بالموت عار على الفتى -القصيدة- فقال: الحجاج لحاجبه: اذهب فاقطع لسانه. فدعا لها بالحجام ليقطع لسانها فقالت: ويلك إنما قال لك الأمير: اقطع لسانها بالصلة والعطاء, فارجع إليه واستأذنه, فرجع إليه فاستأمره فاستشاط عليه وهم بقطع لسانه, ثم أمر بها فدخلت عليه فقالت: كاد وعهد الله يقطع مقولي وأنشدته:
حجاج أنت الذي لا فوقه أحد ... إلا الخليفة والمستغفر الصمد
حجاج أنت سنان الحرب إن بهجت ... وأنت للناس في الداجي لنا نقد
ودخل عبد الملك بن مروان على زوجته عاتكة بنت يزيد بن معاوية فرأى عندها امرأة بدوية أنكرها فقال لها: من أنت؟ قالت له: أنا الوالهة الحري ليلة الأخيلية. قال: أنت التي تقولين:
أريقت جفان ابن الخليع فأصبحت ... حياض الندى زلت بهن المراتب
فلهى وعفى بطن قودي وحوله ... كما انقض عرش البئر والورد عاصب
قالت: أنا التي أقول ذلك. قال: فما أبقيت لنا. قالت: الذي أبقاه الله لك. قال: وما ذاك؟ قالت: نسباً قرشياً وعيشاً رخياً وامرأةً مطاعةً قال: أفردته بالكرم. قالت: أفردته بما أفرده الله به.
قالت عاتكة: إنما جاءت تستعين بنا عليك في عين تسقيها وتحميها لها, ولست ليزيد إن شفعتها في شتى من حاجاتها لتقديمها أعرابياً جلفاً على أمير المؤمنين فوثبت ليلى على رجلها واندفعت تقول: