يسمونني المجنون حين يرونني ... نعم بي من ليلى الغداة جنون
وكان سبب عشقه لها أنه مر على ناقة وعليه حلتان من حلل الملوك بزمرة من قومه وعندها نسوة يتحدثن فأعجبهن, فاستنزلته للمنادمة فنزل وعقر لهن ناقته, وأقام معهن بياض اليوم. وكانت ليلى مع من حضر وحين وقعت عينه عليها لم يصرف عنها طرفاً, وشاغلته فلم يشتغل, فلما نحر الناقة جاءت لتمسك معه اللحم فجعل يحز بالمدية في كفه وهو شاخص فيها حتى أعرق كفه فجذبتها من يده ولم يدر ثم قال لها: أتاكلين الشواء؟ قالت: نعم, فطرح من اللحم شيئاً على الغضي وأقبل يحادثها. فقالت له انظر إلى اللحم هل استوى أم لا؟ فمد يده إلى الجمر وجعل يقلب بها اللحم فاحترقت ولم يشعر, فلما علمت ما داخله صرفت عن ذلك, ثم شدت يده دبهدب قناعها, ثم ذهب وقد تحكم عشقها من قلبه وقد استدعته بعد هذا المجلس للمحادثة وقد داخلها الحب فقالت له: هل لك في محادثة من لا يصرفه عنك صارف؟ قال: ومن لي بذلك؟ فقالت له: اجلس. فجلس وجعلا يتحادثان حتى مضى الوقت ولم يزالا على ذلك حتى حجبها أبوها عنه وزوجها من غيره -كما هو مشهور في قصتها- ومن رقيق شعر ليلى:
لم يكن المجنون في حالة ... إلا وقد كنت كما كانا
لكنه باح بسر الهوى ... وإنني قد ذبت كتمانا
وقال له رجل من قومه: إني قاصد حي ليلى فهل عندك شيء تقوله لها؟ قال نعم, أنشدها إذا وقفت بحيث تسمعك هذه الأبيات:
الله أعلم أن النفس قد هلكت ... باليأس منك ولكني أمنيها
منيتك النفس حتى قد أضر بها ... وأبصرت خلفاً مما أمنها
وساعة منك ألهوها ولو قصرت ... أشهى إلي من الدنيا وما فيها
قال الرجل: قضيت حتى وقفت بخيامها فلما أمكنتني الفرصة أنشدت بحيث تسمع الأبيات فبكت حتى غشى عليها, ثم قالت: أبلغه عني السلام وأنشدت:
نفسي فداؤك لو نفسي ملكت إذا ... ما كان غيرك يجزيها ويرضيها
صبراً على ما قضاه الله فيك على ... مرارة في اصطباري عنك أخفيها
وقال رباح بن عامر: دخلت من نجد أريد الشام فأصابني مطر عظيم, فقصدت خيمة رفعت لي فإذا بامرأة فسألتها التظليل, فأشارت إلى ناحية, فدخلت ثم قالت للعبيد: سلوه من أين الرجل؟ فقلت: من نجد. فتنفست الصعداء ثم قالت: نزلت بمن فيها؟ قلت: ببني الحريش فرفعت ستارة كانت بيننا وإذا بامرأة كأنها القمر ثم قالت: أتعرف رجلاً فيهم يقال له: قيس ويلقب بالمجنون؟ قلت: إي والله سرت مع أبيه حتى أوقفني عليه وهو مع الوحش لا يعقل إلا أن ذكرت له ليلى, فبكت حتى أغمي عليها فقلت: مما تبكين ولم أقل إلا خيراً. فقالت: أنا والله ليلى المشؤمة عليه غير المساعدة له ثم أنشدت:
ألا ليت شعري والخطوب كثيرة ... متى رحل قيس مستقل فراجع
بنفسي من لا يستقل برحله ... ومن هو إن لم يحفظ الله ضائع
وكان آخر مجلس للمجنون من ليلى أنه لما اختلط عقله وتوحش جاءت أمه إليها فأخبرتها وسألتها أن تزوره فعساها أن تخفف ما به فقالت: أما نهاراً فلا خيفةً من أهلي وسآتيه ليلاً, فلما جن الليل جاءت فسلمت عليه ثم قالت: