-كما قاله الفتح بن خاقان في "القلائد"-: أن ابن زيدون كان يكلف بولادة ويهيم ويستضيء بنور محياها في الليل البهيم. وكانت من الأدب والظرف وتتميم السمع والطرف بحيث تختلس القلوب والألباب، وتعيد الشيب إلى أخلاق الشباب.
فلما حل بذلك الضرب وانحل عقدة صبره بيد الكرب فر إلى الزهراء ليتوارى في نواحيها، ويتسلى برؤية موافيها، فوافاها والربيع قد خلع عليها برده، ونشر سوسنه وورده وأترع جداولها، وأنطق بلابلها، فارتاح ارتياح حميد لوادي القرى، وزاح من روضتها يانع وريحة طيبة الثرى، فتشوق إلى لقاء ولادة وحن، وخاف تلك النوائب والمحن، فكتب إليها يصف فرط قلقه وضيق أمده إليها وطلقه، ويعلمها أنه ما سلا عنها بخمر ولا خبا ما في ضلوعه من ملتهب الجمر، ويعاتبها على إغفال تعهده، ويصف حسن محضره بها ومشهده:
إني ذكرتك بالزهراء مشتاقاً ... والأفق طلق ووجه الأرض قد راقا
وللنسيم اعتلال في أصائله ... كأنما رق لي فاعتل إشفاقا
والروض عن مائي الفضي مبتسم ... كما حللت عن اللبات أطواقا
يوم كأيام لذات الهنا انصرفت ... بتنا لها حين نام الدهر سراقا
نلهو بما يستميل العين من زهر ... جال الندى فيه حتى مال أعناقا
كأنه أعين إذا عاينت أرقى ... بكت لما بي فجال الدمع رقراقا
ورد تألق في ضاحي منابته ... فازداد منه الضحى في العين إشراقا
سر بنافحة نيلوفر عبق ... وسنان نبه منه الصبح أحداقا
كل يهيج لنا ذكرى تسوقنا ... إليك لم يعد عنها الصدر أن ضاقا
لو كان في المنى في جمعنا بكم ... لكان من أكرم الأيام أخلاقا
لا سكن الله قلباً عن تذكركم ... فلم يطر بجناح الشوق خفاقا
لو شاء حملي نسيم الريح حين هفا ... وافاكم بفتى أضناه ما لاقى
يا علقي الأخطر الأسنى الحبيب إلى ... نفسي إذا ما اقتنى الأحباب أعلاقا
كان التجاري بمحض الود من زمن ... ميدان أنس جرينا فيه أطلاقا
فالآن أحمد ما كنا لعهدكم ... سلوتم وبقينا نحن عشاقا
وكانت ولادة معجبة بنفسها مفتخرة على بنات جنسها حتى من زيادة إعجابها كتبت الذهب على الطراز الأيمن من عصابتها:
أنا والله أصلح للمعالي ... وأمشي مشيتي وأتيه تيها
وكتبت على الطراز الأيسر:
وأمكن عاشقي من صحن خدي ... وأعطى قبلتي من يشتهيها