فطلبت إليها الإقامة عندها فامتنعت واعتذرت أنها لا تقدر على ترك والدها الفقير فقبلت عذرها بكل أسف وأنعمت عليها بشيء من النقود وانصرفت ثم بعد ذلك اشتهرت بين سيدات مصر وذواتها فكثر طلبها وتحدث بذكرها الرجال والنساء.
ولما رأت "ساكنة" المغنية ذلك خافت على مركزها وشهرتها أن تسترها "ألمس" بما منحها الله من حسن الصوت ورقة الصنعة فضمتها إليها وصارت "ساكنة" لا يعبأ بها فداخلها الحسد والحقد, فساءت معاملتها ولما رأت المترجمة ذلك انفصلت عنها وجعلت لها تختا خصوصيا وكبر شأنها وطلبها ولاة مصر وذواتها وتركت "ساكنة" ونسي أمرها فزاد الحقد والحسد لها من جميع مغنين ومغنيات مصر وكان عبده الحمولي المغني الشهير هو المشهور بين الرجال في ذلك الوقت فأخذه الخوف على شهرته وارتعب من إطفاء اسمه كما حصل ل "ساكنة" فأظهر ل "ألمس" في بادئ الأمر العداوة ووقع الخلاف حتى صار إذا أراد أن يزين أفراحه ويجعل لها رونقا جمع ما بينهما في سامر واحد فيظهر كل منهما ما عنده من حسن الصنعة ورقة الصوت فيطرب السامعين ويصح فيهم المثل السائر: "تشاحنت المراكبيه بسعد الركاب".
ولما رأى عبده الحمولي وأن الأهالي متجهة أفكارها إلى جهة "ألمس" وكثر مادحوها, وقل الالتفات إلى جهته عمد إلى الحيلة والمكر اللذين يتهم بهما النساء وأظهر لها الحب والود الذي لا يشك فيه, وطلب إليها الاقتران وبذل جهده في إتقان الحلية حتى قبلت اقترانها به وكانت من قبل تزوجت برجل إيراني وانفصلت منه لا أعلم إن كان بموت أو بالحياة.
ولما دخلت على عبده كان آخر العهد بها فمنعها عن الغناء وتقدم هو فرجعت له شهرته الأولى إذ لم يبق غيره في القطر المصري وأسف الأهالي جميعا من غياب سناء "ألمس" عن عيونهم وحزن الكثير من هذا الاقتران.
ولما صارت تحت حكمه سلمت له كل مالها وما تملكه ففتح محل تجارة وحيث إنه كان مسرفا في بذل الأموال لم تدم تجارته إلا قليلا فقفل محله التجاري.
وكانت المترجمة جملت منه ولم تلد, بل توفاها الله بحملها وهي في نضارة الشباب وعنفوان الصبا فأسف عليها المصريون مل الأسف وكان لها يوم مشهود جمع أكابر مصر وأصاغرها واحتفل بمشهدها تقله أعناق الرجال وتسقى الأرض بأنهر من الدمع المدرار.
وحزن عبده عليها الحزن الشديد وحاقه الندم على ما فرط منه في معاملتها بالقسوة حيث إنه كان يعاملها بكل فظاظة وهجر حتى قيل: إنه كان يقصد خسارة أموالها فيركب العربة تقلها الخيل الجياد من خليها فلا يحملانه أكثر من الأسبوع وخسرت التجارة وما ينوف عن الثلاثين ألف جنيه وغير ذلك من الخسائر الباهظة غير ما عاملها به من الهجر والإعراض فلحقها الغم وندمت من حيث لا ينفع الندم حتى قيل: إن ذلك سبب موتها لما لحقها من الكدر.
فأثر هذا الأمر في عبده بعد موتها وثابر على الحزن مدة من الزمن وغنى عليها بألحان محزنة نذكرها على سبيل الاستئناس وهو: مذهب:
شربت الصبر من بعد التصافي ... ومر الحال ما عرفتش أصافي
يغيب النوم وأفكاري توافي ... عدمت الوصل آه يا قلبي علي
دور:
يقضي لوم يكفاني ملامه ... وزاد بي الحال يا الله السلامه
مضت بهجة فؤادي يا ندامه ... عدمت الوصل آه يا وعدي علي