ولا سبيل إلى ذلك وإنما هو بلاء بليت به لحين قد أتيح لي, ولكن أنا أمتنع من طروق هذا الحي والإلمام به ولو مت كمدا, وهذا جهدي ومبلغ ما أقدر عليه, وقام وهو يبكي فبكى أبوه ومن حضر جزعا لما رأوا منه حب بثينة ثم أنشد:
ألا من لقلب لا يمل فيذهل ... أفق فالتعزي عن بثينة أجمل
سلا كل ذي ود علمت مكانه ... وأنت بها حتى الممات موكل
فما هكذا أحببت من كان قبلها ... ولا هكذا فيما مضى كنت تفعل
فيا قلب دع ذكرى بثينة إنها ... وإن كنت تهواها تضن وتبخل
وقد أيأست من نيلها وتجهمت ... ولليأس إن لم يقدر النيل أمثل
وإلا فسلها نائلا قبل بينها ... وأبخل بها مسؤولة حين تسأل
وكيف ترجى وصلها بعد وقد جد حبل الوصل ممن تؤمل
وإن التي أحببت قد حيل دونها ... فكن حازما والحازم المتحول
ففي اليأس ما يسلي وفي الناس خلة ... وفي الأرض عمن لا يواتيك معزل
بدا كلف مني بها فتثاقلت ... وما لا يرى من غائب الوجد أفضل
هبيني برئيا نلته بظلامة ... عفاها لكم أو مذنبا يتنصل
فتاة من المران ما فوق حقوها ... وما تحته منها نقا يتهيل
والتقى جميل بعمر بن أبي ربيعة فقال له: يا جميل, قم بنا نذهب على زيارة بثينة. قال: قد أهدر لهم السلطان دمي إن وجدوني عندها وهاتيك أبياتها فاذهب غليها, فأتاها عمر حتى وقف على أبياتها فقال: يا جارية, أنا عمر بن أبي ربيعة فأعلمي بثينة مكاني فأعلمتها فخرجت إليه في مباذلها وقالت: والله يا عمر لا أكون من نسائك اللاتي يزعمن أن قد قتلهن الوجد بك, فانكسر عمر وقال لها قول جميل:
وهما قالتا لو أن جميلا ... عرض اليوم نظرة فرآنا
بينما ذاك منهما وأتاني ... أعمل النص سيرة زفيانا
نظرت نحو تربها ثم قالت ... قد أتانا وما علمنا منانا
فقال إنه استملى منك فما أفلح, وقد اربط الحمار مع الفرس فإن لم يتعلم من جريه تعلم من خلقه فخجل من قولها وانصرف.
ولما ضاقت بجميل الحيل وأراد الخروج إلى الشام هجم ليلا على بثينة وقد وجد غفلة في الحي فقالت له: أهلكتني والله وأهلكت نفسك ويحك أما تخاف؟ فقال لها: هذا وجهي إلى الشام وإنما جئتك مودعا فحادثها طويلا ثم ودعها وقال: يا بثينة ما أرانا نلتقي بعد هذا وبكى بكاء طويلا وبكت, ثم قال وهو يبكي:
ألا لا أبالي جفوة الناس ما بدا ... لنا منك رأي يا بثين جميل
وما لم تطيعي كاشحا أو تبدلي ... بنا بدلا أو كان منك ذهول
وإني وتكراري الزيارة نحوكم ... بثين بذي هجر بثين يطول
وإن صبابتي بكم لكثيرة ... بثين ونسيانيكم لقليل
وخرج إلى الشام وطال غيابه فيها, ثم قدم وبلغ بثينة خبره فراسلته مع بعض نساء الحي تذكر شوقها إليه ووجدها به وطلبها للحيلة في لقائه وواعدته لموضع يلتقيان فيه فسار غليها وحدثها وبث غليها أشواقه وأخبرها خبره بعدها وقد كان أهلها رصدوها فلما فقدوها تبعها أبوها وأخوها حتى هجما عليهما فوثب جميل, وانتضى سيفه وشد عليهما فاتقياه بالهرب وناشدته بثينة الله ألا انصرف وقالت له: إن أقمت فضحتني