وقلت: يقطرن، ولو قلت: يسلن لكان أكثر، وقلت: دما، والدماء: أكثر من الدم.
فسكت حسان ولم يرد جوابا وكان في أثناء ذلك ظهور الإسلام، فقدمت الخنساء على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت واستنشدها فأنشدته فأعجب بشعرها وهو يقول:"هيه يا خنساء". ثم انصرفت.
وقيل: إن عمر بن الخطاب سألها ما أقرح مآقي عينيك؟ قالت: بكائي على السادات من مضر. قالك يا خنساء، إنهم في النار. قالت: ذاك أطول لعويلي عليهم إني كنت أبكي لهم من الثأر، وأنا اليوم أبكي لهم من النار. وقيل: إنها أقبلت في خلافته حاجة، فنزلت بالمدينة بزي الجاهلية فقام إليها عمر في أناس من الصحابة فدخل عليها فإذا هي كما وصفت له فعذلها ووعظها، وقال لها: إن الذي تصنعين ليس صنع الإسلام، وإن الذين تبكين هلكوا في الجاهلية وهم أعضاء اللهيب وحشو جهنم. فقالت: اسمع مني ما أقول في عذلك إياي ولومك لي فقال: هات: فأنشدته من شعرها في أخويها فتعجب من بلاغتها. وقال: دعوها فإنها لا تزال حزينة أبدا.
وقيل: إنها أتت عائشة فنظرت إليها وعليها الصدار وهي محلوقة الرأس تدب من الكبر على عصي فقالت لها عائشة: أخناس؟ فقالت: لبيك يا أماه، قالت: أتلبسين الصدار وقد نهي عنه في الإسلام؟ فقالت: لم أعلم بنهيه. قالت: ما الذي بلغ بك ما أرى؟ قالت: موت أخي صخر. قالت عائشة: ما دعاك إلى هذا صنائع من جميله، فصفيها لي. قالت: نعم، إن لشعري سببا، وذلك أن زوجي كان رجلا متلافا للأموال يقامر بالقداح، فأتلف فيها ماله حتى بقينا على غير شيء فأراد أن يسافر فقلت له: أقم وأنا آتي أخي صخرا فأسأله، فأتيته، فشكوت إليه حالنا وقلة ذات أيدينا فشاطرن ماله، فانطلق زوجي فقامر به فقمر حتى لم يبق لنا شيء فعدت إليه في العام المقبل أشكو غليه حالته فصار لي بمثل ذلك فأتلفه زوجي، فلما كان في الثالثة أو في الرابعة خلت بصخر امرأته فعذلته ثم قالت: إن زوجها مقامر وهذا ما لا يقوم به شيء فإن كان ولا بد من صلتها فأعطها خمس مالك فإنما هو متلف والخير فيه والشر سيان، فأنشأ يقول لامرأته.
والله لا أمنحها شرارها ... وهي حصان قد كفتني عارها
ولو هلكت مزقت خمارها ... واتخذت من شعر صدارها
ثم شطر ماله فأعطاني أفضل شطريه، فما هلك اتخذت هذا الصدار، والله لا اخلف ظنه ولا اكذب قوله ما حيت.
وكان للخنساء أربعة بنين فلما ضرب البحث على المسلمين بفتح فارس صارت معهم وهم رجال، وحضرت وقعة القادسية سنة ١٦ هجرية وسنة ٦٣٨ ميلادية وأوصتهم من الليل بقولها: يا بني، إنكم أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجل واحد، كما إنكم بنو امرأة واحدة ما هجنت حسبكم ولا غيرت نسبكم وأعلموا إن الدار الآخرة خير من الدار الفانية (اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون)(آل عمران: ٢٠٠) ، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها، وجللت نارا على أرواقها، فتيمموا وطيسها وجالدوا رسيسها تظفروا بالغنم والكرامة في الدار الخلد والمقامة، فلما أضاء لهم الصبح باكروا إلى مراكزهم فتقدموا واحدا بعد واحد ينشدون أراجيز يذكرون فيها وصية العجوز لهم حتى قتلوا عن آخرهم فبلغ الخبر إليها فقالت: الحمد الله الذي شرفني بقتلهم وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر الرحمة، وكان عمر بن الخطاب يعطها أرزاق بنيها الأربعة، وكان لكل منهم مائة درهم حتى قبض.
وأخبار الخنساء كثيرة وهي أشهر من أن تذكر، ومن شعرها قولها في أخويها معاوية وصخر وأبيها عمرو:
أبكي أبي عمرا بعين غريرة ... قلل إذا نام الخلي هجودها