للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

دخل أَبُو عبد الله البريدي بَغْدَاد، مُتَقَلِّدًا الوزارة الثَّانِيَة للمتقي، قبض عَلَيْهِ وأحدره لِلْبَصْرَةِ.

فَلَمَّا وردهَا البريدي مُنْهَزِمًا، أطلقهُ، وَأحسن إِلَيْهِ، وَأَمرَنِي بإنزاله بِالْقربِ مني، وإيناسه بملازمتي، وأفتقاده بالدعوات، فَفعلت، فَكُنَّا متلازمين لَا نكاد نفترق.

وَوَجَدته أحلى النَّاس حَدِيثا، وَأَحْسَنهمْ أدبًا، وأعمهم فضلا، وَلم أر قطّ أَشد تغزلًا، وَلَا تهالكًا فِي الْعِشْق مِنْهُ.

فَحَدثني يَوْمًا، قَالَ: عشقت مغنية فِي القيان عشقًا شَدِيدا، فراسلت مولاتها فِي بيعهَا، فاستامت فِيهَا ثَلَاثَة آلَاف دِينَار.

وَكنت أعرف من نَفسِي الْملَل، فَخَشِيت أَن أشتريها فأملها، فدافعت بذلك، وَمَضَت أَيَّام، وَكَانَت هِيَ تَأتي إِلَى عِنْدِي، وَكَانَ يمْضِي لي مَعهَا أطيب عَيْش.

فَانْصَرَفت من عِنْدِي يَوْمًا، وَكَانَ المقتدر بِاللَّه أَمر أَن تشترى لَهُ مغنيات، وَأَنا لَا أعلم، وَكَانَت الْجَارِيَة حَسَنَة الْوَجْه جَيِّدَة الْغناء، فَحملت إِلَى المقتدر فِي جملَة جوَار، فَأمر بشرائهن كُلهنَّ، فاشتريت فِي جملتهن.

وأنفذت من غَد أستدعيها من سيدتها، فَأخْبرت بالْخبر، فَقَامَتْ عَليّ الْقِيَامَة، وَدخل إِلَى قلبِي من الْأَلَم، والاحتراق، والقلق، أَمر مَا دخل مثله قطّ فِي قلبِي، فضلا عَن عشق.

وَزَاد الْأَمر عَليّ، حَتَّى انْتهى بِي إِلَى حد الوسواس، فامتنعت عَن النّظر فِي أَمر دَاري، وتشاغلت بالبكاء، وَلم يكن لي سَبِيل إِلَى العزاء.

<<  <  ج: ص:  >  >>