محاولة قبض روحه تكون بعد الاتصال به والتمكن منه، فدفعه موسى إبعادًا له عنه، وإن كان على وجه الكناية فصكه لإبعاد اتصاله به؛ لأنه علم أن في اتصاله به انتزاع روحه؛ لأنه ملك الموت، فهو كعنصر الموت، فإذا لقى الحي زالت منه الحياة لا محالة، عكس ما قيل في ماء الحياة الذي أظهره الله للخضر في زمن موسى.
وقول الملك في مراجعته ربه تعالى:«أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت» يدل على أن الله لما أرسله أمره أن لا يقبض روحه إلا عن رضى منه، وإلا فما كان من شأن ملك الموت أن يتردد في إنفاذ ما أمر به، فالمقصود من ذلك كرامة موسى عند الله حتى لا يقبض روحه إلا عن رضى منه.
وأحسب أن حكمة ذلك أن الله قد علم أن موسى يحب امتداد حياته لمصلحة هدي قومه، وليرى فتح الأرض المقدسة، وذلك أمر جبلي. وقد علم الله تعالى أن مصلحة وجوده مع قومه قد انتهت، وأن المصلحة صارت في أن يخلفه نبي آخر. وعلم أيضًا أنه لا يشهد فتح الأرض المقدسة، ولكن الله لم يخبره بذلك قبل إبقاء على ما يحسه بجبلته، وملاينة له في تغيير ذلك منه، وتلقينه الرضى بضده؛ ولذلك أعاد إرسال الملك وضرب له ذلك المثل الذي حصل لموسى به اعتبار وموعظة، فتغيرت محبته الحياة إلى محبة لقاء الله تعالى، إذ قال:«فالآن» ليكون قد أحب لقاء الله قبل موته، فيحق عليه ما ورد في الحديث [٩: ١٧٧، ١٦]: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه».
واعلم أن هذا كله مما يجري في العالم الملكي وعالم الأرواح، فلا تجري أحكامه على ما هو المتعارف في عالم الجثمان، فلا نطيل بالبحث كيف صك موسى غيره وكيف فقأ عينه، كما ورد في بعض الروايات في صحيح مسلم. وللمازري في المعلم وعياض في إكماله ذكر مطاعن لبعض المبتدعة وإشكالات لغيرهم وأجوبة عن ذلك فارجع إليها إن شئت في إكمال إكمال الإكمال.
* *
ووقع فيه عن أبي هريرة - رضي الله عنهم -[٤: ١٩٢، ٦]:
(قال: استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود، فقال المسلم: والذي اصطفى محمدًا - صلى الله عليه وسلم - على العالمين، في قسم يقسم به. فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم عند ذلك يده فلطم اليهودي، فذهب اليهودي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره الذي كان من أمره وأمر المسلم، فقال: