ويحتمل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يوصيهم بالصبر على الجور إن نزل بهم من حرمان حقوقهم، وهو صر غير واجب.
ولعل هذا هو الذي أشار إليه أنس بقوله:«فلم نصبر» يعني بذلك ما وقع بين الأنصار وبين يزيد بن معاوية مما كان من عواقبه يوم وقعة الحرة. أخذ أنس بعموم الأمر في قوله:«فاصْبِرُوا» على وجه الاحتياط، وإن كان الفعل لا عموم له، وكان لفظ «أثرة» وهو نكرة وارداً في سياق الإثبات لا في سياق النفي؛ ولذلك كان الحمل عليه محملاً بعيداً، ولا يعد الأنصار مخالفين لما أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ومما يدل على ذلك أيضاً ما وقع في حديث أنس في باب مناقب الأنصار حين رام النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقطع للأنصار من البحرين فأبوا إلا أن يقطع للمهاجرين مثلهم فقال لهم [٥: ٤٢، ٤]: «إما لا فاصبروا حتى تلقوني على الحوض ستصيبكم بعدي أثرة». فإن ذكر تلك الأثرة، بعد حرض الأنصار على أن لا يؤثروا على المهاجرين بمزية، انتهازٌ لفرصة مظهر صفة إيثار الأنصار على أنفسهم الذين وصفوا به في القرآن، فأمرهم بأن يتذكروا ذلك بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خشية من أن تحملهم الأنفة على منازعة المهاجرين فيما آثرهم الله من ولاية بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
[باب الجزية]
وقع في حديث جبير بن حية عن غزوة نهاوند، وقول ترجمان عامل كسرى للمغيرة بن شعبة [٤: ١١٨، ١٤]:
«مَا أَنْتُم؟ ».
أي سأل سؤالاً ترجمته باستعمال العرب كلمة «مَا أَنْتُم؟ » فإن (ما) الاستفهامية في كلام العرب يسأل بها عن نسب القوم أو الشخص. يقال: ما أنت؟ فيقول: قرشي، مثلاً. ويقال للقوم: ما أنتم. فيقولون: قوم من ربيعة، مثلاً.
وقد تكرر ورود هذا السؤال بنحو هذا في أخبار الوفود في السيرة قالها النبي - صلى الله عليه وسلم - للوفود غير مرة، وهو استعمال غريب، ولعدم ذكره في كتب اللغة والنحو التبس أمره على الشرحين، فتوهموا الإتيان بما عنا في خطاب العقلاء مقصوداً به التحقير وهو خطأ.