وأنا أقول: شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كالطبيب يعطي الأمزجة ما يصلحها، فإذا رأى من ذلك إفراطاً ينقلب إصلاحه إفساداً عدله بحالة أخرى، والأشياء التي يوجد في النفوس دافع إليها بالشهوة قد يكون فيها صلاح وقد يشاب صلاحه بفساد، فالاكتساب مطلوب للنفوس، والحرث بخاصة مرغوب لبعض الأمم. وقد أظهر حديث أنس ما في الزرع من الفضل لصاحبه.
وجاء ما في حديث أبي أمامه مشيراً إلى ما يقتضيه الشغل بالحرث من اعتلاق القلب به والتباعد عن الخصال التي يقتضيها غالب حال أهل البادية العربية من الاكتساب بالرماح، أعني الغارة، فإن الإسلام هذبها بالجهاد، وفي طباع أهل الغارة ما يعين على الإقبال على الجهاد، فلما كان في التعلق بالحرث ما قد يغلب على شجاعة الأمة أشارت رواية أبي أمامة إلى إيقاظ أهل الحرث إلى الحفاظ على ما تقتضيه عزة الأمة من الشجاعة، فإن في طبع التعلق بالكسب أن يثبط صاحبه عن الارتماء بنفسه في الأخطار، وذلك يجر إلى الذل، فعلى المسلم الحفاظ على عزته، وأن يحذر ما يعقبه حب الحرث من الذل الذي يسري في النفس رويداً رويداً حتى يُغشى عليها، فأراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - التنبيه إلى آثار سبب واقعي، ليأخذ المسلم في الحذر من آثاره بتربية النفس على عدم التأثر به، ولا يقتضي ذلك تحريماً ولا كراهة شرعيين ولكنه تعليم وإيقاظ.
* * *
[باب إذا قال اكفني مؤونة النخل وتشركني في الثمر]
فيه قول أبي هريرة [٣: ١٣٦، ١٥]:
(قالت الأنصار للنبي: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، قال:«لا» فقالوا: تكفونا المؤونة ونشرككم في الثمرة، قالوا: سمعنا واطعنا).
هكذا وقع لفظ هذا الحديث في مواضع أربعة من صحيح البخاري إلا أنه وقع في «باب الإخاء بين المهاجرين والأنصار من كتاب المناقب»[٥: ٣٩، ١٩].
(قال: تكفونا) عوض (فقالوا: تكفونا)، واتفق الشارحون على أن ضمير (قال) عائد إلى الأنصار حملاً على رواية (فقالوا)، وعليه يتجه إشكال في قوله: