(جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: من أحقُّ الناسِ بحسن صحابتي؟ قال:«أُمُّكَ» قال: ثمَّ من؟ قال:«ثمَّ أمُّك» قال: ثمَّ من؟ قال:«ثمَّ أمُّك» قال: ثمَّ من؟ قال:«ثمَّ أبوك»).
هذا الحديث أخرجه مسلم، وأخرج أبو داود والترمذي قريباً من لفظه، وكلها راجعة إلى معاوية بن حَيْدَة القشيري راوي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو السائل كما في جامع الترمذي.
وقد أهمل العلماء تحقيق الكلام على معنى هذا الحديث فذهب أكثرهم إلى أنه رجع جانب الأم على جانب الأب في البِرِّ، حتى قال جماعة منهم أبو بكر بن العربي في العارضة وابن بطال في شرح البخاري وابن عطية في تفسير قوله تعالى:{حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وهْنًا عَلَى وهْنٍ} الآية في سورة لقمان، إلى تحديد ذلك بتكسير البر إلى أربعة كسور ثلاثة منها للأم وواحد للأب، وهذا عجيب من أمثالهم.
وقد ذكر شهاب الدين القرافي في الفرق الثالث والعشرين كلامهم، وأورد عليه شكوكاً، كأنه يحاول إرجاع هذا اللفظ النبوي إلى نوع المتشابه، ثم أوله بأن المقصود منه إظهار تأكيد حق الأم في البرِّ ثم أتى بكلام تشمُّ منه حيرته في ذلك.
والذي يجب الاعتماد عليه: أن هذا الحديث إذا كان قد حكاه الراوي بلفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - دون تصرف، فمعناه وتأويله: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم من السائل أنه يرمي إلى الإذن منه بحسن صحبة غَيْر أمه، على ما جرت به عادة أهل الجاهلية من التسامح في برِّ الأم بما للأبناء من إدلال عليها، وبما وُقر في نفوسهم من الإقبال على جانب الأب لاعتزازه بالرجولة والبطولة، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يظهر له الاهتمام بجانب الأم للحذر من التفريط في حقها، فلا يقتضي الحديث إلا الاهتمام بها، وأنها جديرة بالبرِّ مثل الأب قَلْعاً لآثار الجاهلية من نفوس المسلمين، فالأبوان في البرِّ سواء، كما أشار له قوله تعالى:{أَنِ اشْكُرْ لِي ولِوَالِدَيْكَ}، وقوله:{ووَصَّيْنَا الإنسَانَ بِوَالِدَيْهِ}، وقوله: