[كيف كان الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -]
وقع في الحديث الثاني قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للحارث بن هشام حين سأله [١: ٢، ١١]:
(كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانًا يتمثل أي الملك رجلًا، فيكلمني فأعي ما يقول».
الضمير المستتر في قوله:«يأتيني» عائد إلى «الوحي» بتأويله بالملَك المرسل بالوحي، وهو جبريل، كما يقتضيه قوله:«وقد وعَيْت عنه ما قال» فضمير «عنه» والضمير المستتر في «ما قال» لا يصلحان إلا للعود إلى «الملك»، وقد صرح باسم «الملك» في قوله: «وأحيانًا يتمثَّل لي الملك»، وإنما لم يقل: وأحياناً يتمثَّل لي، بإضمار ضمير «الملك» كما قال قبله: «يأتيني»، وقال:«وقد وعيت عنه» للتصريح بأن الذي يتمثل هو الملك وليس رجلاً من الرجال يتمثَّل فيه الوحي.
ولم أر من عرَّج على بيان موقع اختلاف حَاليْ الوحي؛ بين حال شدة وأهون منه وقد ثبت في حديث: أولُ ما نَزَلَ من الوحي أن الملك جاءه في غار حراء وأنه أقرأه وغطَّه ثلاثًا، ثم قال: اقرأ فقرأ. وكان حال الابتداء أنسب بأن يكون الأشدُّ عليه من الوحي؛ فليست الحالة الشديدة إذن لأجل قلَّة تعوَّد؛ ولذلك تعين أن أشدَّ الحالين يكون عند نزول قرآن طويل بأن تنزل سورة كاملة، مثل سورة الأنعام، أو ينزل معظم سورة، فجعل الله لذلك حالة شديدة؛ للاتصال الملكي بقلب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّ القرآن لا ينزل إلا بواسطة الملَك، قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [الشعراء: ١٩٣، ١٩٤]، وبذلك يظهر وجه الاختلاف في التعبير بين قوله:«فيصم عني وقد وعيت عنه ما قال» وبين قوله: «فيكلمني فأعي ما يقول»؛ إذ جاء في العبارة الأولى بجملة حالية مقترفة بحرف (قد) وهي تؤذن بغرابة ذلك الوعي وصعوبته بخلاف العبارة الثانية.
وأما قوله:«وهو أشد علي» فإنما كان أشدُّ لعَرائه عن تمثل ملك الوحي في صورة رجل؛ لأن ذلك التمثل وإلقاء الوحي في صورة التكليم آنسُ للاتصال الروحاني بعالم الوحي؛ لأنه كيفية قريبة من معتاد النفوس كما ذكر علماء المعاني في فائدة تشبيه المعقول بالمحسوس.