(«لا تخيروني على موسى فإن الناس يصعقون فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش بجانب العرش فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي أو كان ممن استثنى الله»).
لا شك أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أفضل الرسل، وأنه يعلم أنه أفضل الرسل؛ لأن مثل هذا من أول ما يجب الإيمان به، فلا يؤخر علمه، ولا يُدعى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمه بعد مضي سنين من بعثته، فإن ذلك تلفيق لا يقبل.
وقد ذكر القاضي أبو الفضل في الشفاء في فصل من فصول الباب الثالث من القسم الأول وجوهًا خمسة، بعضها جار في جميع الأخبار الواردة في النهي عن التفضيل، وبعضها خاص بالبعض وأحسنها هو الوجه الثالث، وغيره لا ينشرح له الصدر.
ووجه الجواب عندي: أنه نهى عن التخيير عند المجادلة مع أهل الكتاب؛ لأنه يفضي إلى الخصومات، وهذا من تسامح دين الإسلام على نحو قوله تعالى:{وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}[الأنعام: ١٠٨]. وقرينة ذلك أن القصة وقع فيها اعتداء على اليهودي الذي لم يلزمه الإسلام بتغيير اعتقاده، فذلك هو معنى قول علمائنا: إن أهل الكتاب لا يعزرون على ما يقولونه مما هو من أصل دينهم.
ويحتمل أن يكون النهي تعلق بالخوض فيما لا قبل للناس بعلمه ولا بمقدار تفاضله. فالمقصود سد ذريعة التهافت والرجم بالغيب. فالنهي عن التخيير لا يقتضي نفي التخيير في نفس الأمر. ويدل لهذا الرواية الأخرى:«لا تفضلوا بين الأنبياء»، أي فإن ذلك دخول في خوض لا يحسن داخله الخروج منه.
ويحتمل أن يكون النهي تعلق بالتفضيل المطلق في سائر الأمور. ويدل لهذا قوله:«فإن الناس يصعقون» إلخ، الدال على أن لموسى مزية اختص بها. والمزية تقتضي الأفضلية الجزئية ولا تقتضي الأفضلية الكلية.