للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أو باختلاف أحوال الناس، فيسكت الشارع عن تحريمه في وقت عروض المفسدة له، ويكل الانكفاف عن فعله للناس؛ إذ يكفون عنه من تلقاء أنفسهم لتحرجهم منه، مثل ما كانوا يفعلون في الجماع ليل رمضان، فكانوا يَرَوْنه حرامًا أو قريبًا منه، وكان بعضهم يفعله ويتحرج منه، كما كشفه قوله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ}، وقد كان الناس في زمن رسول الله -عليه الصلاة والسلام - ناسًا صالحين فهو يكل بعض الأحكام العارضة إلى ما يعلم من زهدهم عن المشبهات.

ويفوض ذلك إلى أفهام الفقهاء في الدين بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإذا سأل السائل عن فعل من الأفعال التي هذا حالها تعين بيان حكمها بالقول، فإذا ورد فيها قرآن أو سنة تناقله الناس في العصور، فيستمر الحكم الوارد في شأنها ويعم سائر المسلمين في سائر العصور؛ لأنهم يستعظمون مخالفة ما جاء في القرآن أو صريح سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد يتعذر تحديد كيفية تحريمه لكثرة صور التحريم ودقة الفروق التي توقت التحريم، وعسر وضع عموم الناس تلك الصور في مواضعها، فإذا حرم تحريمًا غير مفصل دخل على الناس حرج بذلك، وإذا فُصل فُتح لأصحاب الأفهام الضعيفة باب التقصيد فيه؛ وذلك لا يناسب مدة حياة المشرع، فكان سؤال السائل عن ذلك الحكم موقعًا للناس في حرج ومغلقًا في وجوه العلماء باب التفصيل والتأويل.

ويدل لهذا المعنى ما ورد في مواضع من السنة من كراهية الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يتناقل الناس أنه حرم أو حلل غير ما حرمه القرآن أو حلَّله، وهذا يفتح بابًا في أصول الفقه من الفرق بين الأحكام الثابتة بالكتاب والأحكام الثابتة بالسنة غير المتواترة وغير المعلومة بالضرورة.

هذا إذا أريد بالجرم في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - الذنب، وهو ظاهر قوله «منْ أعْظم الناس جُرْمًا» أنه تسبب في حرج مستمر على المسلمين.

ومثال هذا ما روي في النهي عن كِرَاء الأرض بما يخرج منها، ومثاله تحريم عود المرأة إلى زوجها بعد الملاعنة، فقد صار قول العجلاني: «كذبت عليها إن أمسكتها» سببًا في سنة تحريم عود الملاعنة إلى الذي لَاعَنَهَا لتحرج الناس من ذلك وتعيرهم به ولذلك قال الراوي: «فكانت تلك سنة المتلاعنين من بعد»؛ وكذلك الرجم في الزنا فقد أعرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المُقِرِّ على نفسه ثلاث مرات لعله ينصرف.

ويحتمل أن يراد بالجُرْم الشيء المكدر للناس لا الذنب، فيكون المعنى أن السائل

<<  <   >  >>