ودليل التأويل قائم، وهو نصوص القرآن المقتضية أنه لا تزر وازرة وزر أخرى.
ومن الناس من زعم أن معنى الخبر: أن من كان النوح من سنة قومه ولم يوصهم بتركه كان معاقبًا بما صنع أهله. وهذا قد يومئ إليه قول البخاري لقول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}[التحريم: ٦]. ومال إليه القرافي في كتاب «الفروق». وهو تأويل بعيد؛ إذ لا يجب على أحد أن يوصي قومه بأن لا يفعلوا منكرًا بعد موته؛ لأن تغيير المنكر واجب عند وقوعه ففضيلة وتنبيه وليس ذلك بالواجب؛ فإن أحكام الشريعة تقررت في تكليف الناس فلم يلزم التذكير بها.
وإن ما رواه عمر بن الخطاب أقرب إلى التأويل؛ لأن فيه أن الميت يُعذب ببعض بكاء أهله، وهو البكاء الذي تصاحبه نياحة، ويكون في حال تنبه للمحتضر له واستحسانه إياه، كما قال طرفة في الجاهلية:
إذا متُّ فانْعيني بما أنا أهله ... وشُقَّي عليَّ الجيب يَابنة معْبَد
أو أدركه المحتضر، وكان قادرًا على النهي عنه ولم ينه عنه، وإذ قد تعين التأويل فقد خرج العمل في هذا عن الجمع إلى الترجيح، ليكون ترجيح خبر عائشة مسندًا للتأويل.
قوله في حديث أسامة بن زيد [٢: ١٠٠، ١٢]:
(أرسلت ابنة النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه: إن أبنًا لي قبض فائتنا، فأرسل يقرئ السلام ويقول:«إن لله ما أخذ وله ما أعطى ... ») إلخ.
أي فلم يذهب إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - أول مرة حين دعته، إذ لم ير فائدة في الإجابة، ليعلم الناس ترك الجزع عند المصيبة، فإن الإسراع بالذهاب إذا لم يكن معنياً عن الميت ولا اعن أهله ضرب من الجزع؛ ولذلك أجابها في المرة الثانية إذ قد حصل المقصد من نفي مظاهر الجزع.
وقوله في الحديث:«ففاضت عيناه» هو بكاء للرحمة بالصبي حين شاهده في تلك الحالة المؤلمة، مع أنه لم يبك عندما أخبر بموته حين بعثت إليه في المرة الأولى.
وذلك يدل على أن الحيَّ المكروب أحق بالرحمة من الميت بعد موته.