«أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا وقع كان لفلان»).
كانت الصدقة في حال الصحة أفضل لما تؤذن به من تعلق نفس المتصدق بحب الخير والقربة إلى الله تعالى، فإن الصحيح شديد التعلق بماله، كثير الآمال في الانتفاع به؛ فإنفاقه المال مع تلك الحالة إنما هو للرغبة في الزلفى من الله تعالى، كما قال تعالى:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، [آل عمران: ٩٢] والمال في حال التمكن من الانتفاع به، وفي حال الاحتياج إلى فوائده هو ممن يحب.
وأما التصدق عند توقع الموت، فهو بذل لما ليس بعزيز على النفس؛ إذ قد أشرف على أن يحال بينه وبين الانتفاع به؛ ولأجل هذا لم تقبل التوبة عند الاحتضار؛ لأنها تحصيل حاصل؛ إذ قد حيل بين المذنب وبين ذنوبه، فلم يحصل المقصود من الأمر بالتوبة، أما الصدقات في حال الاحتضار فهي مقبولة لحصول المنفعة المقصودة منها، ولأنها ليس فيها اعتداءا على حق أحد؛ لأن الله قد جعل للمشرف على الموت التصرف في ثلث ماله.
والحاصل: أن العمل تفاضل بمقدار ما دل عليه من إيثار العامل نفع غيره وإرضاء ربه على منفعة نفسه.
وقوله:«وقد كان لفلان» هو من صيغ الإقرار بالدين، أي قد كان لفلان على كذا، وهذا من صيغ العطية أيضًا يعبر به عن العطايا التي يخلعها المرء من ماله بينه الوصية بها لمن يريد أن يوصي إليه؛ ولكنه لا يريد أن ينفذها إلا بعد موته؛ فلذلك يقول «قد كان لفلان» أي كنت عينت له، ويكون ذلك أيضاً في العدة بعطية من ثمرة تحضر، أو مال غائب، كما وعد أبو بكر عائشة فجاء عشرين، فهذا المراد بقرينة قرنها بصيغ العطايا هنا، وجعلها من أحوال الصدقة.
ويجوز أن يكون المراد به الإقرار الحقيقي بما عليه من الحقوق بجحدها، أو يماطل بها في حياته شحًا، فإذا أشرف على الموت أقر بها لأربابها؛ فيكون ذكره مع الجواب عن أفضل الصدقة استطرادًا لمناسبة حكاية حال من يؤخر أداء الحقوق الربانية وغيرها إلى اقتراب وفاته.