ثم إنهم تفرقوا في البلاد، وصار كل واحد مقتدى ناحية من النواحي، فكثرت الوقائع، ودارت المسائل، فاستفتوا فيها، فأجاب كل واحد حسب ما حفظه أو استنبطه، وإن لم يجد فيما حفظه أو استنبطه ما يصلح للجواب، اجتهد برأيه وعرف العلة التي أدار سول الله صلى الله عليه وسلم عليها الحكم في منصوصاته، فطرد الحكم حيثما وجدها، لا يألو جهدًا في موافقة غرضه صلى الله عليه وسلم.
[أسباب اختلاف الصحابة وصوره]
فعندئذ وقع الاختلاف بينهم على ضروب منها:
١ - أن يسمع صحابي حكمًا في قضية أو فتوى، ولم يسمعه الآخر، فيجتهد برأيه في ذلك، ويكون هذا على وجوه:
(أ) أن يقع اجتهاده موافقًا للحديث، ومثاله: ما جاء عن ابن مسعود أنه سئل عن امرأة مات عنها زوجها ولم يفرض لها، فقال: لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضى في ذلك، فاختلفوا عليه شهرًا وألحوا، فاجتهد برأيه، وقضي بأن لها مهر نسائها: لا وَكَسَ ولا شطط، وعليها العدة، ولها الميراث، فقام معقل بن يسار فشهد بأنه صلى الله عليه وسلم قضى بمثل ذلك في امرأة منهم، ففرح بذلك ابن مسعود فرحة لم يفرح مثلها قط بعد الإسلام.
(ب) أن يقع بينهما المناظرة، ويظهر الحديث بالوجه الذي يقع به غالب الظن فيرجع عن اجتهاده إلى المسموع، ومثاله: أن أبا هريرة كان من مذهبه أنه من أصبح جنبًا فلا صوم له، حتى أخبرته بعض أزواج النبى صلى الله عليه وسلم بخلاف مذهبه فرجع.
(جـ) أن يبلغه الحديث لكن لا على الوجه الذي يقع به غالب الظن، فلم يترك اجتهاده بل طعن في الحديث، ومثاله: أن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها شهدت عند عمر بن الخطاب بأنها كانت مطلقة ثلاثًا، فلم يجعل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سكنى، فردَّ شهادتها وقال: لا نترك كتاب الله بقول امرأة ندري أصدقت أم كذبت.