خصومهم، ونصبوها ذريعة للخوض والجدال يتناظرون بها، ويتلاطمون عليها، وعند التصادر عنها قد حكم الغالب بالحذق والتبريز فهو الفقيه المذكور في عصره، والرئيس المعظم في بلده ومصره. هذا وقد وسوس لهم الشيطان حيلة لطيفة، وبلغ منهم مكيدة بليغة فقال لهم: هذا الذي في أيديكم علم قصير وبضاعة مزجاة فإن تفي بمبلغ الحاجة والكفاية، فاستعينوا عليه بالكلام، وصلوه بمقطعات منه، واستظهروا بأصول المتكلمين يتسع للمرء مذهب الخوض ومجال النظر، فصدق عليهم إبليس ظنه، وأطاعه كثير منهم واتبعوه، إلا فريقًا من المؤمنين، فيا للرجال والعقول أين يذهب بهم، وأنى يخدعهم الشيطان عن حظهم وموضع رشدهم، والله المستعان، انتهى كلام الخطابي.
[[أحوال الناس في المائة الأولى والثانية]]
اعلم أن الناس كانوا في المائة الأولى والثانية غير مجمعين على التقليد لمذهب واحد بعينه، قال أبو طالب المكي في «قوت القلوب»: «إن الكتب والمجموعات محدثة، والقول بمقالات الناس والفتيا بمذهب الواحد من الناس، واتخاذ قوله، والحكاية له في كل شيء، والتفقه على مذهبه، لم يكن الناس على ذلك في القرنين الأول والثاني» اهـ.
وقال ابن الهمام في «التحرير»: «وكانوا يستفتون مرة واحدًا، ومرة غيره، غير ملتزمين بفتيا واحد» اهـ.
وأما العلماء فكانوا على مرتبتين: منهم من أمعن في تتبع الكتاب والسنة والآثار حتى حصل له ملكة إفتاء الناس وإجابتهم في غالب الوقائع بحيث يكون جوابه أكثر مما يتوقف فيه، ويُخص باسم «المجتهد».
ومنهم من حصل له من معرفة القرآن والسنن ما يتمكن به من معرفة رءوس الفقه وأمهات مسائله بأدلتها التفصيلية، وحصل له غالب الرأي ببعض المسائل الأخرى من أدلتها، وتوقف في بعضها، واحتاج في ذلك إلى مشاورة العلماء لأنه لم تتكامل له الأدوات كما تتكامل للمجتهد المطلق، فهو مجتهد في العبض غير متجهد في البعض، وقد تواتر عن الصحابة والتابعين أنهم كانوا إذا بلغهم الحديث يعلمون به من غير أن يلاحظوا شرطًا.