بلغهم منه أن يحتجوا به على خصومهم إذا وافق مذاهبهم التي ينتحلونها، ووافق آراءهم التي يعتقدونها، وقد اصطلحوا على مواضعة بينهم في قبول الخبر الضعيف والحديث المنقطع إذا كان ذلك قد اشتهر عندهم، وتعاورته الألسن فيما بينهم، من غير تثبت فيه أو يقين علم به، فكان ذلك زلة من الراوي أو عيًّا فيه، وهؤلاء- وفقنا الله وإياهم- لو حكى لهم عن واحد من رؤساء مذاهبهم وزعماء نحلهم قول يقوله باجتهاده من قبل نفسه، طلبوا فيه الثقة، واستبرءوا له العهدة: فنجد أصحاب مالك لا يعتمدون في مذهبه إلا ما كان من رواية ابن القاسم وأشهب وأضرابهما من نبلاء أصحابه، فإذا جاءت رواية عبد الله بن عبد الحكم وأضرابه لم يكن عندهم طائلاً، وترى أصحاب أبي حنيفة- رحمه الله تعالى- لا يقبلون من الرواية عنه إلا ما حكاه أبو يوسف ومحمد بن الحسن والعلية من أصحابه والأجلة من تلامذته، فإن جاءهم عن الحسن بن زياد اللؤلؤي وذوي روايته قول بخلافه لم يقبلوه ولم يعتمدوه. وكذلك تجد أصحاب الشافعي إنما يعولون في مذهبه على رواية المزني والربيع بن سليمان المرادي، فإذا جاءت رواية خزيمة والجرمى وأمثالهما لم يلتفتوا إليها ولم يعتدُّوا بها في أقاويله، وعلى هذا عادة كل فرقة من العلماء في أحكام مذاهب أئمتهم وأساتذتهم.
فإذا كان هذا دأبهم، وكانوا لا يقتنعون في أمر هذه الفروع والرواية عن هؤلاء الشيوخ إلا بالوثيقة والتثبت، فكيف يجوز لهم أن يتساهلوا في الأمر الأهم والخطب الأعظم، وأن يتواكلوا الرواية والنقل عن إمام الأئمة ورسول رب العزة، الواجب حكمه، اللازمة طاعته، الذي يجب علينا التسليم لحكمه والانقياد لأمره من حيث لا نجد في أنفسنا حرجًا مما قضاه، ولا في صدورنا غلاً من شيء أبرمه وأمضاه، أرأيتكم إذا كان الرجل يتساهل في أمر نفسه ويسامح غرماءه في حقه، فأخذ منهم الزيف ويغضي لهم عن العيب، هل يجوز له أن يفعل ذلك في حق غيره إذا كان نائبًا عنه، كولي الضعيف ووصى اليتيم ووكيل الغائب؟ وهل يكون ذلك منه إذا فعله إلا خيانة للعهد وإخفارًا للذمة؟ فهذا هو ذلك إما عيان خمس وإما عيان مثل، ولكن أقوامًا عساهم استوعروا طريق الحق، واسطابوا الدعة في ذلك الحظ، وأحبوا عجالة النيل، فاختصروا طريق العلم، واقتصروا على نتف وحروف منتزعة من معاني أصول الفقه سموها عللاً، وجعلوها شعارًا لأنفسهم في الترسم برسم العلم، وأخذوها جنة عند لقاء