البلدان وجمعها والبحث عنها، واتهموا أنفسهم في ذلك، وكانوا اعتقدوا في أئمتهم أنهم في الدرجة العليا من التحقيق، وكانت قلوبهم أميل شيء إلى أصحابهم، كما قال أبو حنيفة:«إبراهيم - يعني: النخعي- أفقه من سالم، ولولا فضل الصحبة لقلت: علقمة أفقه من ابن عمر!!».
وكان عندهم من الفطانة والحدس وسرعة انتقال الذهن من شيء إلى شيء ما يقدرون به على تخريج جواب المسألة على أقوال أصحابهم، فمهدوا الفقه على قاعدة التخريج، فوقع التخريج في كل مذهب فكثر، وأي مذهب كان أصحابه مشهورين وسُدِّ إليهم القضاء والإفتاء، فاشتهرت تصانيفهم في الناس، وانتشرت في أقطار الأرض.
ومن هنا نشأت مدرستا الحديث والفقه، وقد صدَّر الإمام الخطابي -رحمه الله- كتاب «معالم السنن»(١) بالكلام عليهما فقال: رأيت أهل العلم في زماننا قد حصلوا أمرين، وانقسموا إلى فرقتين: أصحاب حديث وأثر، وأهل فقه ونظر، وكل واحدة منهما لا تتميز عن أختها في الحاجة، ولا تستغني عنها في درك ما نحوه من البغية والإرادة، لأن الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل، والفقه بمنزلة البناء الذي هو له كالفرع، وكل بناء لم يوضع على قاعدة أساس فهو منهار، وكل أساس خلا عن بناء وعمارة فهو قفر وخراب. ووجدت هذين الفريقين على ما بينهم من التداني في المحلين، والتقارب في المنزلين، وعموم الحاجة من بعضهم إلى بعض، وشمول الفاقة اللازمة لكل منهم إلى صاحبه، إخوانًا متهاجرين، وعلى سبيل الحق بلزوم التناصر غير متظاهرين.
فأما هذه الطبقة الذين هم أهل الحديث والأثر فإن الأكثرين إنما كدهم الروايات، وجمع الطرق، وطلب الغريب والشاذ من الحديث الذي أكثره موضوع أو مقلوب، لا يراعون المتون، ولا يتفهمون المعاني، ولا يستنبطون سرها، ولا يستخرجون ركازها وفقهها وربما عابوا الفقهاء وتناولوهم بالطعن، وادعوا عليهم مخالفة السنن، ولا يعلمون أنهم عن مبلغ ما أوتوه من العلم قاصرون، وبسوء القول فيهم آثمون، وأما الطبقة الأخرى -وهم أهل الفقه والنظر- فإن أكثرهم لا يعرجون من الحديث إلا على أقله، ولا يكادون يميزون صحيحه من سقيمه، ولا يعرفون جيده من رديئه، ولا يعبأون بما