كان الرجل فيما قبلهم لا يتمكن إلا من جمع حديث بلده وأصحابه، كما انكشف لهم بهذا التدوين والبحث والمناظرة ما كان خافيًا من حال أسانيد هذه الأحاديث.
فرجع المحققون منهم- بعد إحكام فن الرواية ومعرفة الأحاديث- إلى الفقه، فلم يكن عندهم من الرأي أن يُجمع على تقليد رجل ممن مضى مع ما يروون من الأحاديث والآثار المناهضة لكل مذهب من تلك المذاهب، ولم تكن مسالة من المسائل التي تكلم فيها من قبلهم والتي وقت في زمانهم إلا وجدوا فيها حديثًا مرفوعًا متصلاً أو مرسلاً أو موقوفًا، أو وجدوا أثرًا من آثار الشيخين أو سائر الخلفاء وقضاة الأمصار وفقهاء البلدان، فيسَّر الله لهم العمل بالسنة على هذا الوجه، وكان أعظمهم شأنًا وأوسعهم رواية، وأعرفهم للحديث مرتبة وأعمقهم فقهًا، أحمد بن حنبل ثم إسحاق ابن راهويه- رحمهما الله تعالى- قال الشافعي لأحمد:«أنتم أعلم بالأخبار الصحيحة منا، فإذا كان خبر صحيح فأعلمونى حتى أذهب إليه، كوفيًا كان أو بصريًا أو شاميًا» اهـ.
وقد خلف هؤلاء قوم رأوا أن أصحابهم قد كفوهم مؤنة جمع الأحاديث، وتمهيد الفقه على هذا الأصل، فتفرغوا لفنون أخرى، كتمييز الحديث الصحيح المجمع عليه من كبراء أهل الحديث كيزيد بن هارون ويحيى القطان وأحمد وإسحاق وأضرابهم، وكجمع أحاديث الفقه التي بنى عليها فقهاء الأمصار وعلماء البلدان مذاهبهم، وكالحكم على كل حديث بما يستحقه، وكالشاذَّة والفاذَّة من الأحاديث التي لم يرووها، أو طرقها التي لم تخرج من جهتها الأوائل، وغير ذلك، ومن هؤلاء: البخاري ومسلم وأبو داود وعبد بن حميد والدارمي وابن ماجه وأبو يعلى والترمذي والنسائي والدارقطني والحاكم والبيهقي وغيرهم.
وكان بإزاء هؤلاء في عصر مالك وسفيان وبعدهم قوة لا يكرهون المسائل، ولا يهابون الفتيا، وإنما يهابون رواية حديث النبي صلى الله عليه وسلم والرفع إليه، حتى قال الشعبي:«على من دون النبي صلى الله عليه وسلم أحب إلينا، فإن كان فيه زيادة أو نقصان؛ كان على من دون النبي صلى الله عليه وسلم».
فوقع تدوين الحديث والفقه والمسائل من حاجتهم بموقع من وجه آخر، وذلك أنه لم يكن عندهم من الأحاديث والآثار ما يقدرون به على استنباط الفقه على الأصول التي اختارها أهل الحديث، ولم تنشرح صدورهم للنظر في أقوال علماء