إلى مذهب السلف مما يراه أرجح ما هناك، وهما لا يزالان على محجة النخعي ما أمكن لهما كما كان أبو حنيفة- رحمه الله- يفعل، ولذا عُدَّ مذهبًا مع مذهب أبى حنيفة واحدًا- مع أنهما مجتهدان مطلقان مخالفتهما له غير قليلة في الأصول والفروع- لتوافقهم في هذا الأصل.
ونشأ الشافعي- رحمه الله- في أوائل ظهور المذهبين وترتيب أصولهما وفروعهما، فنظر في صنيع الأوائل فوجد فيه أموراً كَبَحت عنانه عن الجريان في طريقهم، منها: أنه وجدهم يأخذون بالمرسل والمنقطع فيدخل فيهما الخلل، ومنها أنه لم تكن قواعد الجمع بين المختلفات مضبوطة عندهم فتطرَّق بذلك خلل في مجتهداتهم، فوضع لها أصولاً ودوَّنها في كتاب، وهذا أول تدوين كان في أصول الفقه، ومنها أن أقوال الصحابة جمعت في عصر الشافعي فكثرت واختلفت وتشعبت، ورأى كثيرًا منها يخالف الحديث الصحيح حيث لم يبلغهم، ورأى السلف لم يزالوا يرجعون في مثل ذالك إلى الحديث، فترك التمسك بأقوالهم ما لم يتفقوا، وقال: هم رجال ونحن رجال.
ومنها أنه رأى قومًا من الفقهاء يخلطون الرأي الذي لم يسوغه الشرع بالقياس الذي أثبته، فلا يميزون واحداً منها عن الآخر.
وبالجملة فإنه - رحمه الله- لما رأى هذه الأمور أخذ الفقه من الرأس فأسس الأصول وفرع الفروع ونف الكتب فأجاد وأفاد، واجتمع عليه الفقهاء، ثم تفرقوا في البلدان فكان هذا مذهب الشافعي.
[أسباب الاختلاف بين أهل الحديث وأهل الرأي]
واعلم أنه كان من العلماء من عصر التابعين فما بعدهم قوم يكرهون الخوض بالرأي ويهابون الفتيا والاستنباط إلا لضرورة لا يجدون منها بُدًا، وكان أكبر همهم رواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقع شيوع تدوين الحديث والأثر في بلدان الإسلام، وكتابة الصحف والنسخ، فطاف من أدرك من عظمائهم ذلك الزمان بلاد الحجاز والشام والعراق ومصر واليمن وخراسان وجمعوا الكتب وتتبعوا النسخ حتى اجتمع لهم من الحديث والآثار ما لم يجتمع لأحد قبلهم، واجتمع عندهم ما كان خافيًا على أهل الفتوى من آثار فقهاء كل بلد من الصحابة والتابعين، بعد أن