فإنهم يأخذون بأقواها وأرجحها، وإذا لم يجدوا فيما حفظوه جواب المسألة خرجوا من كلامهم وتتبعوا الإيماء والاقتضاء، فحصل لهم مسائل كثيرة في كل باب.
[الفقه بعد عهد التابعين]
ثم أنشأ الله تعالى بعد عصر التابعين نشأً من حملة العلم، فأخذوا العلم عنهم، ونسجوا على منوال شيوخهم، فتمسكوا بالمسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم واستدلوا بأقوال الصحابة والتابعين، علمًا منهم أنها إما أحاديث منقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اختصروها فجعلوها موقوفة، أو يكون استنباطًا منهم من المنصوص واجتهادًا منهم بآرائهم، وهم أحسن صنيعًا في كل ذلك ممن يجيء بعدهم، وأكثر إصابة، وأقدم زمانًا وأوعى علمًا، فتعين العمل بها إلا إذا اختلفوا وكان حديث رسول الله يخالف قولهم مخالفة ظاهرة.
وقد أُلهموا في هذه الطبقة التدوين، فدون مالك، ومحمد بن عبد الرحمن ابن أبى ذئب بالمدينة، وابن جرير وابن عيينة بمكة، والثوري بالكوفة، والربيع بن صبيح بالبصرة.
وكان مالك أثبتهم في حديث المدنيين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوثقهم إسناداً، وأعلمهم بقضايا عمر، وأقاويل عبد الله في عمر وعائشة وأصحابهم من الفقهاء السبعة، وبه وبأمثاله قام علم الرواية والفتوى، ولما وسد إليه الأمر حدَّث وأفتى وأفاد وأجاد.
وكان أبو حنيفة- رحمه الله- ألزمهم بمذهب إبراهيم النخعى وأقرانه، لا يجاوزه إلا ما شاء الله، وكان عظيم الشأن في التخريج على مذهبه، دقيق النظر في وجوه التخريجات، مقبلاً على الفروع أتمَّ إقبال.
وكان أشهر أصحابه ذكرًا أبو يوسف- رحمه الله- وكان أحسنهم تصنيفًا وألزمهم درسًا محمد بن الحسن، وكان من خبره أنه تفقَّه على أبي حنيفة وأبي يوسف، ثم خرج إلى المدينة فقرأ «الموطأ» على مالك، ثم رجع إلى بلده فطبق مذهب أصحابه على «الموطأ» مسألة مسألة، فإن وافق منها وإلا فإن طائفة من الصحابة والتابعين ذاهبين إلى مذهب أصحابه فكذلك، وإن وجد قياسًا ضعيفًا أو تخريجًا يخالفه حديث صحيح مما عمل به الفقهاء ويخالفه عمل أكثر العلماء تركه