للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[ظهور التمذهب للمجتهدين بعد المائة الثانية]

وبعد المائتين ظهر فيهم التمذهب للمجتهدين بأعيانهم، وقلَّ من كان لا يعتمد على مذهب مجتهد بعينه، وقد كان المشتغل بالفقه لا يخلو عن حالتين:

١ - إما أن يكون أكبر همه معرفة المسائل التي أجاب فيها المجتهدون من قبل من أدلتها التفصيلية ونقدها وتنقيحها وترجيح بعضها على بعض، ولابد له من أن يستحسن شيئًا مما سبق إليه إمامه ويستدرك عليه شيئًا، فإن كان استدراكه أقل من موافقته عُدَّ من أصحاب الوجوه في المذهب، وإن كان أكثر لم يُعدَّ تفرُّده وجهًا في المذهب، وكان مع ذلك منتسبًا إلى صاحب المذهب في الجملة، ممتازًا عمن يأسى بإمام آخر في كثير من أصول مذهبه وفروعه، ويوجد لمثل هذا بعض مجتهدات لم يسبق بالجواب فيها، إذ الوقائع متتالية، والباب مفتوح، فيأخذها من الكتاب والسنة وآثار السلف من غير اعتماد على إمامه، ولكنها قليلة بالنسبة إلى ما سبق بالجواب فيه، وهذا هو المجتهد المطلق المنتسب.

٢ - وإما أن يكون أكبر همه معرفة المسائل التي يستفته فيها المستفتون مما لم يتكلم فيه المتقدمون، وهذا حاجته إلى إمام يتأسى به في الأصول الممهدة في كل باب أشد من حاجة الأول، لأن مسائل الفقه متعانقة متشابكة، فروعها تتعلق بإمامتها، فلو ابتدأ هذا بنقد مذاهبهم وتنقيح أقوالهم لكان ملتزمًا لما لا يطيقه، ولا يتفرغ منه طول عمره، فلا سبيل إلا أن يحمل النظر فيما سبق فيه ويتفرغ للتفاريع، وقد يوجد لمثل هذا استدراكات على إمامه بالكتاب والسنة وآثار السلف والقياس لكنها قليلة بالنسبة إلى موافقاته، وهذا هو «المجتهد في المذهب».

[ما حدث في الناس بعد المائة الرابعة]

ثم بعد هذه القرون كان ناس آخرون ذهبوا يمينًا وشمالاً، وحدث فيهم أمور منها:

- الجدل والخلاف في علم الفقه وتفصيله على ما ذكره الغزالي: أنه لما انقرض عهد الخُلفاء الراشدين المهديين أفضت الخلافة إلى قوم تولوها بغير استحقاق ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام، فاضطر إلى الاستعانة بالفقهاء وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم، وقد كان بقي من العلماء من هو مستمر على الطراز الأول، وملازم صف الدين، فكانوا إذا طُلبوا هربوا وأعرضوا، فرأى

<<  <  ج: ص:  >  >>