للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أهل تلك الأعصار غير العلماء وإقبال الأئمة عليهم مع إعراضهم، فانبروا لطلب العلم توصلاً إلى نيل العز ودرك الجاه.

وقد كان من قبلهم قد صنَّف ناس في علم الكلام وأكثر القيل والقال، والإيراد والجواب، وتمهيد طريق الجدال، ووقع منهم ذلك بموقع.

- ومنها أنهم اطمأنوا بالتقليد، ودب في صدورهم دبيب النمل وهم لا يشعرون، وكان سبب ذلك تزاحم الفقهاء وتجادلهم فيما بينهم، فقد كان كل من أفتى بشيء نوقض في فتواه ورد عليه، فلم ينقطع الكلام إلا بالمصير إلى تصريح رجل من المتقدمين في المسألة، وأيضًا فإنه لما جاء أكثر القضاة ولم يكونوا أُمناء لم يقبل منهم إلا ما لا يرتب العامة فيه، ويكون شيئًا قد قيل من قبل.

وقد اختصر هؤلاء كلام أئمتهم في الدعوة إلى نبذ التقليد والعمل بالكتاب والسنة وتأوَّلوا الخلاف، وثبتوا على مختار أئمتهم، فنشأ بعدهم قرون على التقليد الصرف لا يميزون الحق من الباطل ولا الجدل من الاستنباط، وشاع فيهم التعصُّب للمذاهب والتي نشأ عنها افتراق الكلمة، وتضليل بعضهم البعض حتى كان بعضهم ليرى خروج الإنسان من مذهب من قلَّده- ولو في مسألة- كالخروج من الملة، كأنه نبي بُعث إليه، وافترضت طاعته عليه!!، فظهر من يُفتي بعدم جواز اقتداء الحنفي بإمام شافعي!! بل وبعدم تزوُّج الحنفي من الشافعية!! ويجوز ذلك آخرون قياسًا على الكتابية!!.

فحدثت من هذه البدع هذه المقامات الأربعة في المسجد الحرام (١)، فتعددت الجماعة وانتصر كل متمذهب لجماعة مذهبه، فبأمثال هذه البدع حصل إبليس مقصدًا من مقاصده، ألا وهو تقرير المسلمين وتشتيت شملهم، نعوذ بالله من ذلك.

ولم يأت قرن بعد ذلك إلا وهو أكثر فتنة وأوفر تقليدًا وأشد انتزاعًا للأمانة من صدور الناس، حتى اطمأنوا بترك الخوض في أمر الدين، وبأ، يقولوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} (٢) وإلى الله المشتكى وهو المستعان، وبه الثقة وعليه التكلان.


(١) هذا ذكره المعصومي في «هدية السلطان» ص (٤٨).
(٢) سورة الزخرف، الآية: ٢٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>