إذ لا يستبعد منع إيثار الصدق بالنسبة إلى الغائب. والمتنازع فيه الحسن والقبح للأفعال بالنسبة إلى أحكام الله -تعالى- ويجوز أن يقع بالنسبة إليه ما لا يجوز أن يقع منا. ألا ترى أن تمكين العبد من المعاصي لا يقبح من الله -تعالى- ومنا يقبح, وإذا كان كذلك لم يصح قياس حسن الصدق في حق الله على حسنه في حقنا.
ولقائل أن يقول: لا نسلم استحالة ذلك بالنسبة إلى الفاعل المختار, ألا ترى إلى قوله -تعالى-: (سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم) فإنه ساوى بين المتنافيين من كل وجه.
وقالوا -أيضا-: لو كان شرعيا لزم إفحام الرسل, واللازم باطل بالاتفاق وبيان الملازمة أن الرسول لما ادعى النبوة وأظهر المعجزة وقال للجاحد انظر في معجزتي ليظهر لك صدق دعواي. يقول الجاحد: لا أنظر فيها حتى يجب علي النظر فيها, ويعكس ويقول: ولا يجب النظر علي حتى انظر فيها, لأن وجوب النظر حينئذ بالشرع فيتوقف على ثبوت الشرع, وثبوته يتوقف على دلالة المعجزة على صدق الرسول في دعواه ودلالتها على ذلك موقوفة على النظر في المعجزة, فيقول لا أنظر في معجزتك لئلا تثبت نبوتك , ويلزم الإفحام.
وحاصله أن يقول: لا أنظر حتى يجب, ولا يجب حتى أنظر فيتوقف كل منهما على الآخر, وهو دور.
ولقائل أن يقول: التقرير المذكور يؤدي إلى أن يكون النظر واجبا بالعقل, والمذهب خلافه, وأن هذه المسألة تدل على أن النظر واجب شرعا لا على أن حسن الأفعال عقلي أو شرعي, بل هذه مسألة أخرى مختلف فيها هي من مقدمات مسألة التحسين وذلك مثل أن يقال: الإيمان حسن عقلا, لأنه شكر المنعم, وشكر المنعم