للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الذي صدَّ فيه المشركون النبيَّ صلى الله عليه وسلم عامَ الحديبية في السنة السادسة، وذلك من نوع القصاص (١)، ولهذا قال: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ}، وذلك شاملٌ لجميع الحُرُمات؛ حرمةِ الزمانِ والمكانِ والإحرامِ، وحرمةِ المؤمنِ، وحرمةِ العهدِ، فمَن انتهك حُرمةً اقتُصَّ منه على الوجه المأذون فيه شرعًا.

وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} أي: مَنْ اعتدى عليكم بقتالٍ أَوْ قتلٍ أَوْ أَيِّ نوع من أَنواع العدوان؛ فاعتدوا عليه قصاصًا وجزاءً بمثل اعتدائه عليكم، وسمَّى جزاءَ الاعتداء اعتداءً مُشاكلةً لفظيةً؛ كقوله: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: ٤٠]، وفي هذا بيانٌ لصفة القصاص في قوله: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ}.

ثم أَمر سبحانه عبادَه أن يتقوه، وذلك بفعل ما أَمرهم به وتركِ ما نهاهم عنه، فذلك يَقيهم عذابَ اللهِ وبأسَه، ورغَّبهم في التقوى فقال: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِين (١٩٤) وأَكَّد معيَّته تعالى للمتقين بقوله: {وَاعْلَمُواْ}، وهذه الآيةُ كقوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُمْ مُّحْسِنُون (١٢٨)} [النحل: ١٢٨].

وقولُه: {وَاتَّقُواْ اللّهَ}: تأكيدٌ لكل ما تقدَّم من الأوامر والنواهي.

ثم قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ}: أَمر بإنفاق الأموال في سبيل الله؛ أي: لوجه الله، وفي كلِّ طريقٍ يحبُّ اللهُ الإنفاقَ فيه، ومن أعظم ذلك الجهادُ في سبيل الله بقتال أعداء الله؛ لتكون كلمة الله هي العليا.

وقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}: نهيٌ للمؤمنين عن أَنْ يُعرِّضوا أنفسهم للهلكة، وهي: التهلكة، وليس من ذلك الانغماسُ في العدو، بل من الإلقاء باليد إلى التهلكة: القعودُ عن الجهاد، وقد كان سببُ نزول هذه الآية أَنَّ


(١) وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس ومجاهد والسدي والضحاك وغيرهم، وهو قول جمهور المفسرين. ينظر: «تفسير الطبري» (٣/ ٣٠٤ - ٣٠٩)، و «المحرر الوجيز» (١/ ٤٦٥ - ٤٦٦)، و «تفسير ابن كثير» (١/ ٥٢٧).

<<  <   >  >>