المنسوخ، كموقف الإسلام في سموه ونبله من مشكلة الخمر في عرب الجاهلية، وقد كانت مشكلة معقدة كل التعقيد، يحتسونها بصورة تكاد تكون إجماعية، ويأتونها لا على أنها عادة مجردة، بل على أنها أمارة القوة، ومظهر الفتوّة، وعنوان الشهامة! فقل لي بربك: هل كان معقولا أن ينجح الإسلام في فطامهم عنها لو لم يتألفهم ويتلطف بهم إلى درجة أن يمتن عليهم بها أول الأمر، كأنه يشاركهم في شعورهم.
وإلى حد أنه أبى أن يحرمها عليهم في وقت استعدت فيه بعض الأفكار لتسمع كلمة تحريمه حين سألوه صلّى الله عليه وسلم: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [سورة البقرة آية: ٢١٩].
أما الحكمة في نسخ الحكم الأصعب بما هو أسهل منه، فهي التخفيف على الناس ترفيها عنهم وإظهارا لفضل الله عليهم ورحمته بهم، وفي ذلك إغراء لهم على المبالغة في شكره وتمجيده، وتحبيب لهم فيه وفي دينه.
وأما الحكمة في نسخ الحكم بمساويه في صعوبته أو سهولته، فالابتلاء والاختبار ليظهر المؤمن فيفوز، والمنافق فيهلك لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ.
يبقى الكلام في حكمة بقاء التلاوة مع نسخ الحكم، وفي حكمة نسخ التلاوة مع بقاء الحكم.
أما حكمة بقاء التلاوة مع نسخ الحكم؛ فهي تسجيل تلك الظاهرة الحكيمة، ظاهرة سياسة الإسلام للناس، حتى يشهدوا أنه هو الدين الحق، وأن نبيه نبي الصدق، وأن الله هو العليم الحكيم، الرحمن الرحيم، يضاف إلى ذلك ما يكتسبونه من الثواب على هذه التلاوة، ومن الاستمتاع بما حوته تلك الآيات المنسوخة من بلاغة، ومن قيام معجزات بيانية أو علمية أو سياسية بها.
وأما نسخ التلاوة مع بقاء الحكم، فحكمته تظهر في كل آية بما يناسبها، وأنه لتبدو لنا حكمة رائعة في مثال مشهور من هذا النوع.
ذلك أنه صح في الرواية عن عمر بن الخطاب وأبي بن كعب أنهما قالا: كان فيما أنزل من القرآن: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة» أي كان هذا النص آية تتلى، ثم نسخت تلاوتها وبقي حكمها معمولا به إلى اليوم، والسر في ذلك أنها كانت تتلى أولا لتقرير حكمها، ردعا لمن تحدثه نفسه أن يتلطخ بهذا العار الفاحش من شيوخ وشيخات حتى إذا ما تقرر هذا الحكم في النفوس نسخ الله تلاوته لحكمة أخرى، هي الإشارة إلى شناعة هذه الفاحشة وبشاعة صدورها من شيخ وشيخة، حيث سلكها مسلك ما لا يليق أن يذكر فضلا عن أن يفعل، وسار بها في طريق يشبه طريق المستحيل الذي لا يقع، كأنه قال: