نزّهوا الأسماع عن سماعها، والألسنة عن ذكرها فضلا عن الفرار منها، ومن التلوث برجسها. كتب الله لنا الحفظ والعصمة إنه ولي كل نعمة وتوفيق.
[شبه أبي مسلم في إنكار النسخ والرد عليها]
النقل عن أبي مسلم مضطرب، فمن قائل: إنه يمنع وقوع النسخ على الإطلاق، ومن قائل: إنه ينكر وقوعه في شريعة واحدة، ومن قائل: إنه يمكن وقوعه في القرآن خاصة، ورجّحت هذه الرواية الأخيرة بأنها أصح الروايات، وبأن التأويلات المنقولة عنه لم تخرج عن حدود ما نسخ من القرآن، وأبعد الروايات عن الرجل هي الرواية الأولى؛ لأنه لا يعقل أن مسلما فضلا عن عالم كأبي مسلم ينكر وقوع النسخ جملة، اللهمّ إلا إذا كانت المسألة ترجع إلى التسمية فقط؛ فإنها تهون حينئذ، على معنى أن ما نسميه نحن نسخا، يسميه هو تخصيصا بالزمان مثلا، وإلى ذلك ذهب بعض المحققين.
قال التاج السبكي: إن أبا مسلم لا ينكر وقوع المعنى الذي نسميه نحن نسخا، ولكنه يتحاشى أن يسميه باسمه، ويسميه تخصيصا .. اه.
احتج أبو مسلم بقوله: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [سورة فصلت آية: ٤٢]. وشبهته في الاستدلال: أن هذه الآية تفيد أن أحكام القرآن لا تبطل أبدا. والنسخ فيه إبطال لحكم سابق.
وندفع مذهب أبي مسلم وشبهته بأمور أربعة:
أولها: أنه لو كان معنى الباطل في الآية هو متروك العمل به مع بقاء قرآنيته، لكان دليله قاصرا عن مدّعاه؛ لأن الآية لا تفيد حينئذ إلا امتناع نوع خاص من النسخ وهو نسخ الحكم دون التلاوة؛ فإنه وحده هو الذي يترتب عليه وجود متروك العمل في القرآن، أما نسخ التلاوة مع الحكم أو مع بقائه فلا تدل الآية على امتناعه بهذا التأويل.
ثانيها: أن معنى الباطل في الآية ما خالف الحق، والنسخ حق، ومعنى الآية: أن عقائد القرآن موافقة للعقل، وأحكامه مسايرة للحكمة، وأخباره مطابقة للواقع، وألفاظه محفوظة من التغيير والتبديل، ولا يمكن أن يتطرق إلى ساحته الخطأ بأي حال:
ولعلك تدرك معي أن تفسير الآية بهذا المعنى يجعلها أقرب إلى إثبات النسخ ووقوعه منها إلى نفيه وامتناعه؛ لأن النسخ- كما قررنا- تصرف إلهي حكيم تقتضيه الحكمة