ومنها: أن قوله سبحانه: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ [سورة البقرة آية: ١٨٤]، منسوخ بقوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [سورة البقرة آية: ١٨٥] على معنى أن حكم تلك منسوخ بحكم هذه، مع بقاء التلاوة في كلتيهما كما ترى.
[٣ - وأما نسخ التلاوة دون الحكم:]
فيدل على وقوعه ما صحت روايته عن عمر بن الخطاب وأبيّ بن كعب أنهما قالا: كان فيما أنزل من القرآن: الشيخ والشيخة إذا زينا فارجموهما البتة .. اه.
وأنت تعلم أن هذه الآية لم يعد لها وجود بين دفتي المصحف ولا على ألسنة القراء، مع أن حكمها باق على إحكامه لم ينسخ.
ويدل على وقوعه- أيضا-: ما صح عن أبيّ بن كعب أنه قال: (كانت سورة الأحزاب توازي سورة البقرة أو أكثر) مع أن هذا القدر الكبير الذي نسخت تلاوته لا يخلو في الغالب من أحكام اعتقادية لا تقبل النسخ.
ويدل على وقوعه- أيضا-: الآية الناسخة في الرضاع، وقد سبق ذكرها في النوع الأول.
ويدل على وقوعه- أيضا-: ما صح عن أبي موسى الأشعري أنهم كانوا يقرأون سورة على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم في طول سورة براءة، وأنها نسيت إلا آية منها، وهي:
(لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. ويتوب الله على من تاب).
وإذا ثبت وقوع هذين النوعين كما ترى، ثبت جوازهما؛ لأن الوقوع أعظم دليل على الجواز كما هو مقرر، وإذا بطل ما ذهب إليه المانعون له من ناحية الشرع، كأبي مسلم، ومن لف لفه. ويبطل كذلك ما ذهب إليه المانعون له من ناحية العقل، وهم فريق من المعتزلة. شذّ عن الجماعة فزعم أن هذين النوعين الأخيرين مستحيلان عقلا.
ويمكنك أن تفحم هؤلاء الشذاذ من المعتزلة بدليل على الجواز العقلي الصرف لهذين النوعين فتقول: إن ما يتعلق بالنصوص القرآنية من التعلق بلفظها، وجواز الصلاة بها، وحرمتها على الجنب في قراءتها ومسها، شبيه- كل الشبه- بما يتعلق بها من دلالتها على الوجوب والحرمة ونحوهما، في أن كلّا من هذه المذكورات حكم شرعي يتعلق بالنص الكريم وقد تقتضي المصلحة نسخ الجميع، وقد تقتضي نسخ بعض هذه المذكورات دون بعض، وإذا يجوز أن تنسخ الآية تلاوة وحكما، ويجوز أن تنسخ تلاوة لا حكما، ويجوز أن تنسخ حكما لا تلاوة، وإذا ثبت هذا بطل ما ذهب إليه أولئك الشذاذ من الاستحالة العقلية للنوعين الأخيرين.