فترك العصر حتى خرج وقته مادام لم يصل إلى بني قريظة، ومنهم من تأول النص وحمله على الكناية في الإسراع فصلّى حين خاف فوات الوقت من قبل أن يصل إلى بني قريظة.
نقول: إن مثل هذا الخلاف حدث على عهد صاحب الرسالة وأقره، تيسيرا على المسلمين وإعلاما بأن الإسلام دين الكافة، يسع جميع البشر في كل العصور والأحوال، وشهد المسلمون بعد ذلك عصرا سعيدا كان أئمة الدين فيه يختلفون فيما بينهم كثيرا، ولكنهم كانوا بجانب هذا يتكارمون ويتعاونون ويتراحمون كثيرا.
وإن كنت في شك فاسأل التاريخ عن إكرام مالك للشافعي، واحترام الشافعي لأحمد بن حنبل، حتى ورد أنه كان يتبرك بغسالة قميصه، أي يتبرك الأستاذ الإمام بغسالة قميص تلميذه المخالف له في الرأي والاجتهاد! ثم سل التاريخ عن معاونة صاحب أبي حنيفة للشافعي، ودفعه إليه كتبه في كرم وحسن ضيافة وصدق محبة! ولا تنس إباء مالك على الخليفة العباسي أن يحمل الناس في بلاد الإسلام كلها على موطئه ومذهبه، ويعتذر إليه بأن الإسلام أوسع من موطئه ومذهبه، وأن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم تفرقوا في البلاد ولكلّ وجهة.
أرأيت هذا النبل والطهر؟ .. أجل .. أجل!! ولكنك يضيق بك الأسف حين ترى بجانبه فئات من المسلمين أيضا تراشقوا بالكفر، وتراموا بالشرك، وتقاذفوا بالتبدّع والهوى لمجرد تأويل يستسيغه النظر، ويتسع له صدر الاستدلال.
ثم اتسع الخرق على الراقع في بعض الظروف حتى دارت معارك طاحنة بين صفوف كلها مسلمة، وأريقت دماء ذكية كلها إسلامية! ولا نزال نشهد من مثل هذا الصراع القائم على التنطع مشاهد ما كان أغنانا عنها، وما كان أحرانا بالحذر منها، خصوصا بعد ما سمعنا من الآيات، وبعد أن أقر الرسول صلّى الله عليه وسلم أمثال هذه الخلافيات وبعد أن قال في حديث واحد ثلاث مرات:«هلك المتنطعون» وهي كلمة صغيرة ولكنها كبيرة، تحذر وتنذر، وتمثل الهلاك جاثما بالتنطع بأشكاله وألوانه، في الأنفس والأعراض والأموال، وفي الجماعات والأفراد على سواء.
[التفسير بالرأي وبيان ما يجوز منه وما لا يجوز]
المراد بالرأي هنا الاجتهاد، فإن كان الاجتهاد موفقا؛ أي مستندا إلى ما يجب الاستناد إليه بعيدا عن الجهالة والضلالة، فالتفسير به محمود، وإلا فمذموم، والأمور التي يجب استناد الرأي إليها في التفسير نقلها السيوطي في الإتقان عن الزركشي فقال ما ملخصه: