ذلك مذهب الجمهور من العلماء، لكن بعض المعتزلة والظاهرية يقولون: إن النسخ بغير بدل لا يجوز شرعا. وشبهتهم في هذا أن الله تعالى يقول: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها [سورة البقرة آية: ١٠٦].
ووجه اشتباههم: أن الآية تفيد أنه لا بد أن يؤتى مكان الحكم المنسوخ بحكم آخر هو خير منه أو مثله، ولكنها شبهة مدفوعة بما ذكرنا من النصين السابقين في تقديم الصدقة بين يدي الرسول صلّى الله عليه وسلم. واحتجاجهم بآية: ما نَنْسَخْ على الوجه الذي ذكروه احتجاج باطل؛ لأن الله تعالى إذا نسخ حكم الآية بغير بدل، فهمنا بمقتضى حكمته ورعايته لمصلحة عباده أن عدم الحكم صار خيرا من ذلك الحكم المنسوخ في نفعه للناس، وصحّ حينئذ: إن الله نسخ حكم الآية السابقة، وأتى بخير منها في الدلالة على عدم الحكم الذي بات في وقت النسخ أنفع للناس وخيرا لهم من الحكم المنسوخ. ومعنى آية ما نَنْسَخْ لا يأبى هذا التأويل، بل يتناوله كما يتناول سواه، والنسخ فيها أعم من نسخ التلاوة والحكم مجتمعين ومنفردين ببدل وبغير بدل، والخيرية والمثلية فيهما أعم من الخيرية والمثلية في الثواب والنفع.
[نسخ الحكم ببدل أخف أو مساو أو أثقل]
النسخ إلى بدل يتنوع ثلاثة أنواع:
أولها: النسخ إلى بدل أخف على نفس المكلف من الحكم السابق؛ كنسخ تحريم الأكل والشرب والجماع بعد النوم في ليل رمضان بإباصة ذلك؛ إذ قال سبحانه:
ثانيها: النسخ إلى بدل مساو للحكم الأول في خفته أو ثقله على نفس المكلف؛ كنسخ وجوب استقبال بيت المقدس بوجوب استقبال الكعبة في قوله سبحانه: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [سورة البقرة آية: ١٤٤].