هذا كله إذا لم يمكن الجمع بين النصين بوجه من وجوه التخصيص والتأويل، وإلا وجب الجمع؛ لأن إعمال الدليلين أولى من إعمال دليل وإهدار آخر، ولأن الأصل في الأحكام بقاؤها وعدم نسخها، فلا ينبغي أن يترك استصحاب هذا الأصل إلّا بدليل بيّن.
[ما يتناوله النسخ]
إن تعريف النسخ بأنه: رفع حكم شرعي بدليل شرعي، يفيد في وضوح أن النسخ لا يكون إلا في الأحكام، وذلك موضع اتفاق بين القائلين بالنسخ، لكن في خصوص ما كان من فروع العبادات والمعاملات، أما غير هذه الفروع من العقائد وأمهات الأخلاق وأصول العبادات والمعاملات ومدلولات الأخبار المحضة، فلا نسخ فيها على الرأي السديد الذي عليه جمهور العلماء.
أما العقائد: فلأنها حقائق صحيحة ثابتة لا تقبل التغيير والتبديل، فبدهيّ ألا يتعلق بها نسخ.
وأما أمهات الأخلاق: فلأن حكمة الله في شرعها ومصلحة الناس في التخلق بها أمر ظاهر لا يتأثر بمرور الزمن، ولا يختلف باختلاف الأشخاص والأمم حتى يتناولها النسخ بالتبديل والتغيير.
وأما أصول العبادات والمعاملات: فلوضوح حاجة الخلق إليهما باستمرار، لتزكية النفوس وتطهيرها، ولتنظيم علاقة المخلوق بالخالق والخلق على أساسهما، فلا يظهر وجه من وجوه الحكمة في رفعها بالنسخ.
وأما مدلولات الأخبار المحضة: فلأن نسخها يؤدي إلى كذب الشارع في أحد خبريه الناسخ أو المنسوخ. وهو محال عقلا ونقلا.
أما عقلا: فلأن الكذب نقص، والنقص عليه تعالى محال.
وأما نقلا: فلمثل قوله سبحانه: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [سورة النساء آية: ١٢٢]، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً [سورة النساء آية: ٨٧].
نعم إن نسخ لفظ الخبر دون مدلوله جائز بإجماع من قالوا بالنسخ ولذلك صورتان:
إحداهما: أن تنزل الآية مخبرة عن شيء ثم تنسخ تلاوتها فقط.
والأخرى: أن يأمرنا الشارع بالتحدث عن شيء ثم ينهانا أن نتحدث به.
وأما الخبر الذي ليس محضا: بأن كان في معنى الإنشاء، ودلّ على أمر أو نهي متصلين بأحكام فرعية عملية، فلا نزاع في جواز نسخه والنسخ به، لأن العبرة بالمعنى لا باللفظ.