ضابط حاصر ومطّرد لا يختلف باختلاف سابقيه، ولذلك اعتمده العلماء، واشتهر بينهم. وعليه فآية الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [سورة المائدة آية: ٣]، مدنية مع أنها نزلت يوم الجمعة بعرفة في حجة الوداع.
وكذلك آية: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [سورة النساء آية: ٥٨].
فإنها مدنية مع أنها نزلت بمكة في جوف الكعبة عام الفتح الأعظم، وقل مثل ذلك فيما نزل بأسفاره عليه السّلام كفاتحة سورة الأنفال، وقد نزلت ببدر، فإنها مدنية لا مكية على هذا الاصطلاح المشهور.
[فائدة العلم بالمكي والمدني]
من فوائد العلم بالمكي والمدني تمييز الناسخ من المنسوخ فيما إذا وردت آيتان أو آيات من القرآن الكريم في موضوع واحد، وكان الحكم في إحدى هاتين الآيتين أو الآيات مخالفا للحكم في غيرها، ثم عرف أن بعضها مكي وبعضها مدني، فإننا نحكم بأن المدني منها ناسخ للمكي نظرا إلى تأخر المدني عن المكي.
ومن فوائده أيضا: معرفة تاريخ التشريع وتدرجه الحكيم بوجه عام، وذلك يترتب عليه الإيمان بسمو السياسة الإسلامية في تربية الشعوب والأفراد، وسيستقبلك في هذا المبحث فروق بين المكي والمدني تلاحظ فيها جلال هذه الحكمة.
ومن فوائده أيضا: الثقة بهذا القرآن وبوصوله إلينا سالما من التغيير والتحريف. ويدل على ذلك اهتمام المسلمين به كل هذا الاهتمام حتى ليعرفون ويتناقلون ما نزل منه قبل الهجرة وما نزل بعدها، وما نزل بالحضر وما نزل بالسفر، وما نزل بالنهار وما نزل بالليل، وما نزل بالشتاء وما نزل بالصيف، وما نزل بالأرض، وما نزل بالسماء إلى غير ذلك، فلا يعقل بعد هذا أن يسكتوا ويتركوا أحدا يمسه ويعبث به، وهم المتحمسون لحراسته وحمايته والإحاطة بكل ما يتصل به أو يحتفّ بنزوله إلى هذا الحد.
[الطريق الموصلة إلى معرفة المكي والمدني]
لا سبيل إلى معرفة المكي والمدني إلا بما ورد عن الصحابة والتابعين في ذلك؛ لأنه لم يرد عن النبي صلّى الله عليه وسلم بيان للمكي والمدني. وذلك لأن المسلمين في زمانه لم يكونوا في حاجة إلى هذا البيان، كيف وهم يشاهدون الوحي والتنزيل، ويشهدون مكانه وزمانه وأسباب نزوله عيانا، «وليس بعد العيان بيان».