إن المسلمين اشتدت عنايتهم- من عهد الصدر الأول- بحفظ أسانيد شريعتهم من الكتاب والسنة، بما لم تعن به أمة قبلها، فحفظوا القرآن، ورووه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم متواترا آية آية، وكلمة كلمة، وحرفا حرفا، حفظا في الصدور، وإثباتا بالكتابة في المصاحف، حتى رووا أوجه نقطه بلهجات القبائل، ورووا طرق رسمه في المصحف، وألفوا في ذلك كتبا مطولة وافية، وحفظوا- أيضا- عن نبيهم كل أقواله، وأفعاله، وأحواله، وهو المبلّغ عن ربه، والمبيّن لشرعه، والمأمور بإقامة دينه، وكل أقواله وأفعاله وأحواله بيان للقرآن، وهو الرسول المعصوم، والأسوة الحسنة الذي قال الله تعالى في صفته: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [سورة النجم آية: ٣، ٤].
وقال له: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [سورة النحل آية: ٤٤].
وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يكتب كل شيء يسمعه من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فنهته قريش، فذكر ذلك للرسول صلّى الله عليه وسلم فقال:«اكتب، فو الذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق». [رواه أحمد في المسند بإسناد صحيح. ورواه أيضا أبو داود، والحاكم وغيرهما].
وأمر صلّى الله عليه وسلم المسلمين في حجة الوداع بالتبليغ عنه أمرا عامّا، فقال:«وليبلّغ الشاهد الغائب فإن الشاهد عسى أن يبلّغ من هو أوعى له منه»[رواه البخاري وغيره].
وقال صلّى الله عليه وسلم:«فليبلّغ الشاهد الغائب، فربّ مبلّغ أوعى من سامع»[رواه البخاري وغيره].
ففهم المسلمون من كل هذا أنه يجب عليهم أن يحفظوا عن رسولهم كل شيء، وقد فعلوا، وأدّوا الأمانة على وجهها، ورووا الأحاديث عنه صلّى الله عليه وسلم، واجتهد علماء الحديث في رواية كل ما رواه عنه الرواة، وإن لم يكن صحيحا عندهم، ثم اجتهدوا في التوثق من صحة كل حديث، وكل حرف رواه الرواة، ونقدوا أحوالهم ورواياتهم، واحتاطوا أشد الاحتياط في النقل، فكانوا يحكمون بضعف الحديث لأقل شبهة في سيرة الناقل الشخصية، مما يؤثر في العدالة، أما إذا اشتبهوا في صدقه، أو علموا أنه كذب في شيء من كلامه؛ فقد رفضوا روايته، وسموا حديثه «موضوعا» أو «مكذوبا» وإن لم يعرف عنه الكذب في رواية الحديث، مع علمهم بأنه قد يصدق الكذوب.
وكذلك توثقوا من حفظ كل راو، وقارنوا رواياته بعضها ببعض، وبروايات غيره،