اعلم أنه ينبغي لمح موقع النعم على من علمه الله تعالى القرآن العظيم أو بعضه، بكونه أعظم المعجزات، لبقائه ببقاء دعوة الإسلام، ولكونه صلّى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء
والمرسلين، فالحجة بالقرآن العظيم قائمة على كل عصر وزمان؛ لأنه كلام رب العالمين، وأشرف كتبه جل وعلا، فليعلم من عنده القرآن أن الله أنعم عليه نعمة عظيمة، وليستحضر من أفعاله أن يكون القرآن حجة له لا عليه؛ لأن القرآن مشتمل على طلب أمور، والكف عن أمور، وذكر أخبار قوم قامت عليهم الحجة فصاروا عبرة للمعتبرين حين زاغوا فأزاغ الله قلوبهم، وأهلكوا لما عصوا، وليحذر من علم حالهم أن يعصي، فيصير مآله مآلهم، فإذا استحضر صاحب القرآن علو شأنه بكونه طريقا لكتاب الله تعالى، وأن صدره مصحف له، امتنعت نفسه الموفقة عن الرذائل، وأقبلت على العمل الصالح الهائل. وأكبر معين على ذلك حسن ترتيله وتلاوته، قال الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلم:
وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [سورة المزمل آية: ٤]. وقال تعالى: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا [سورة الإسراء آية: ١٠٦]. فحق على كل امرئ مسلم قرأ القرآن أن يرتله، وكمال ترتيله تفخيم ألفاظه والإبانة عن حروفه، والإفصاح لجميعه بالتدبر حتى ينتفع بكل ما يقرأ، وأن يسكت بين النّفس والنفس حتى يرجع إليه نفسه، وألا يدغم حرفا في حرف؛ لأن أقل ما في ذلك أن يسقط من حسناته بعضها، وينبغي للناس أن يرغبوا في تكثير حسناتهم؛ فهذا الذي وصفت أقل ما يجب من الترتيل.
وقيل: أقل الترتيل أن يأتي بما يبين ما يقرؤه، وإن كان مستعجلا في قراءته، وأكمله أن يتوقف فيها، ما لم يخرجه إلى التمديد والتمطيط؛ فمن أراد أن يقرأ القرآن بكمال الترتيل فليقرأه على منازله، فإن كان يقرأ تهديدا لفظ به لفظ المتهدد، وإن كان يقرأ لفظ تعظيم لفظ به على التعظيم.
وينبغي أن يشتغل قلبه في التفكر في معنى ما يلفظ بلسانه، فيعرف من كل آية معناها، ولا يجاوزها إلى غيرها حتى يعرف معناها، فإذا مر بآية رحمة وقف عندها وفرح بما وعده الله تعالى منها، واستبشر إلى ذلك، وسأل الله برحمته الجنة. وإن قرأ آية عذاب وقف عندها، وتأمل معناها؛ فإن كانت في الكافرين اعترف بالإيمان، فقال: آمنا بالله وحده، وعرف موضع التخويف، ثم سأل الله تعالى أن يعيذه من النار.
وإن هو مر بآية فيها نداء للذين آمنوا فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وقف عندها-