المكي يشير في منظومته بقوله:
وما سوى ذاك مكيّ تنزّله ... فلا تكن من خلاف الناس في حصر
فليس كل خلاف جاء معتبرا ... إلا خلاف له حظ من النظر
وقد جرى هذا البيت مجرى الأمثال عند أهل العلم. اه.
[إنزالات القرآن]
شرّف الله هذا القرآن بأن جعل له ثلاثة إنزالات:
[الإنزال الأول: إلى اللوح المحفوظ،]
ودليله قول الله سبحانه: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [سورة البروج آية: ٢١، ٢٢]. وكان هذا الوجود في اللوح بكيفية لا يعلمها إلا الله تعالى، ثم من أطلعه الله على غيبه، وكان جملة لا مفرّقا؛ لأنه الظاهر من اللفظ عند الإطلاق ولا صارف عنه. ولأن حكمة تنجيم القرآن على النبي صلّى الله عليه وسلم لا يعقل تحقيقها في هذا الإنزال.
وحكمة هذا الإنزال، ترجع إلى الحكمة العامة من وجود اللوح نفسه، وإقامته سجلا جامعا لكل ما قضى الله وقدر، وكل ما كان وما يكون فهو شاهد ناطق، ومظهر من أروع المظاهر الدالة على عظمة الله وعلمه، وإرادته، وحكمته، وواسع سلطانه وقدرته.
[الإنزال الثاني: كان إلى بيت العزة في السماء الدنيا]
، والدليل عليه قول الله سبحانه:
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ [سورة الدخان آية: ٣]، وقوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [سورة القدر آية: ١] وقوله: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [سورة البقرة آية: ١٨٥].
دلت هذه الآيات على أن القرآن أنزل في ليلة واحدة توصف بأنها مباركة أخذا من آية الدخان، وتسمى ليلة القدر أخذا من آية سورة القدر، وهي من ليالي شهر رمضان أخذا من آية البقرة. وإنما قلنا ذلك جمعا بين هذه النصوص في العمل بها، ودفعا للتعارض فيما بينها.
ومعلوم بالأدلة القاطعة- كما يأتي- أن القرآن أنزل على النبي صلّى الله عليه وسلم مفرقا لا في ليلة واحدة، بل في مدى سنين عددا. فتعين أن يكون هذا النزول الذي ذكرته هذه الآيات الثلاث نزولا آخر غير النزول على النبي صلّى الله عليه وسلم. وقد جاءت الأخبار الصحيحة مبينة لمكان هذا النزول، وأنه في بيت العزة من السماء الدنيا. كما تدل الروايات الآتية:
١ - أخرج الحاكم بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: «فصل القرآن من الذكر فوضع في بيت العزة من السماء الدنيا فجعل جبريل ينزل به على النبي صلّى الله عليه وسلم».