(من تلك الوقائع) أن استقبال بيت المقدس في الصلاة لم يعرف إلا من السنة وقد نسخه قوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [سورة البقرة آية: ١٤٤].
ومنها: أن الأكل والشرب والمباشرة كان محرما في ليل رمضان على من صام. ثم نسخ هذا التحريم بقوله تعالى: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [سورة البقرة آية: ١٨٧].
ومنها: أن النبي صلّى الله عليه وسلم أبرم مع أهل مكة عام الحديبية صلحا كان من شروطه: أن من جاء منهم مسلما رده عليهم، وقد وفّى بعهده في أبي جندل وجماعة من المكيين جاءوه مسلمين. ثم جاءته امرأة فهمّ أن يردها فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [سورة الممتحنة آية: ١٠].
[شبهة للمانعين ودفعها:]
أورد المانعون على هذا الاستدلال المعتمد على تلك الوقائع شبهة قالوا في تصويرها:
يجوز أن يكون النسخ فيما ذكرتم ثابتا بالسنة، ثم جاء القرآن موافقا لها، وبهذا يؤول الأمر إلى نسخ السنة بالسنة، ويجوز أن الحكم المنسوخ كان ثابتا أولا بقرآن، نسخت تلاوته ثم جاءت السنة موافقة له، وبهذا يؤول الأمر إلى نسخ القرآن بقرآن.
وندفع هذه الشبهة بأنها قائمة على مجرد احتمالات واهية لا يؤيدها دليل، ولو فتحنا بابها وجعلنا لها اعتبارا، لما جاز لفقيه أن يحكم على نص بأنه ناسخ لآخر إلا إذا ثبت ذلك صريحا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولكن ذلك باطل بإجماع الأمة على خلافه، واتفاقها على أن الحكم إنما يسند إلى دليله الذي لا يعرف سواه بعد الاستقراء الممكن.
[القسم الرابع: نسخ السنة بالسنة:]
ويتنوع إلى أنواع أربعة: نسخ سنة متواترة بمتواترة، ونسخ سنة آحادية بآحادية، ونسخ سنة آحادية بسنة متواترة، ونسخ سنة متواترة بسنة آحادية. أما الثلاثة الأول فجائزة عقلا وشرعا. وأما الرابع وهو نسخ سنة متواترة بآحادية: فاتفق علماؤنا على جوازه عقلا، ثم اختلفوا في جوازه شرعا، فنفاه الجمهور، وأثبته أهل الظاهر.
أدلة الجمهور: استدل الجمهور على مذهبهم بدليلين:
أولهما: أن المتواتر قطعي الثبوت وخبر الواحد ظني، والقطعي لا يرتفع بالظني؛