الآن وقد عرفنا النسخ، وفرقنا بينه وبين ما يلتبس به، وأيدناه بالأدلة، ويجدر بنا أن نبين حكمة الله تعالى فيه، لأن معرفة الحكمة تريح النفس وتزيل اللبس، وتعصم من الوسوسة والدسّ، خصوصا في مثل موضوعنا الذي كثر منكروه وتصيدوا لإنكاره الشبهات من هنا وهناك.
ولأجل تفصيل القول في الحكمة نذكر أن النسخ وقع بالشريعة الإسلامية ووقع فيها.
على معنى أن الله نسخ بالإسلام كل دين سبقه، ونسخ بعض أحكام هذا الدين ببعض.
أما حكمته سبحانه في أنه نسخ به الأديان كلها، فترجع إلى أن تشريعه أكمل تشريع يفي بحاجات الإنسانية في مرحلتها التي انتهت إليها، وبعد أن بلغت أشدها واستوت، ذلك أن النوع الإنساني تقلّب كما يتقلب الطفل في أدوار مختلفة، ولكل دور من هذه الأدوار حال تناسبه غير الحال التي تناسب دورا غيره.
حتى إذا بلغ العالم أوان نضجه واستوائه، وربطت مدنيته بين أقطاره وشعوبه، جاء هذا الدين الحنيف، ختاما للأديان، ومتمما للشرائع، وجامعا لعناصر الحيوية ومصالح الإنسانية، ومرونة القواعد جمعا وفق بين مطالب الروح والجسد، وآخى بين العلم والدين، ونظم علاقة الإنسان بالله وبالعالم كله من أفراد وأسر وجماعات، وأمم وشعوب وحيوان ونبات وجماد، مما جعله بحق دينا عامّا خالدا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها!.
وأما حكمة الله في أنه نسخ بعض أحكام الإسلام ببعض فترجع إلى سياسة الأمة وتعهّدها بما يرقيها ويمحصها، وبيان ذلك أن الأمة الإسلامية في بدايتها حين صدعها الرسول صلّى الله عليه وسلم بدعوته، كانت تعاني فترة انتقال شاقّ، بل كان أشق ما يكون عليها في ترك عقائدها وموروثاتها وعاداتها خصوصا مع ما هو معروف عن العرب الذين شوفهوا بالإسلام، من التحمس لما يعتقدون أنه من مفاخرهم وأمجادهم.
من هنا جاءت الشريعة إلى الناس تمشي على مهل متألفة لهم، متلطفة في دعوتهم، متدرجة بهم إلى الكمال رويدا رويدا، صاعدة بهم في مدارج الرقي شيئا فشيئا، متمشية مع
الإلف والمران والأحداث الجادة عليهم، لتسير بهم من الأسهل إلى السهل، ومن السهل إلى الصعب، ومن الصعب إلى الأصعب حسب أصول التربية، حتى تم الأمر ونجح الإسلام نجاحا لم يعرف مثله في سرعته وامتزاج النفوس به، ونهضة البشرية بسببه!
تلك الحكمة على هذا الوجه تتجلى فيما إذا كان الحكم الناسخ أصعب من